خلاصة مقال نشره (أدمون جالو) في صحيفة الطان الفرنسية
يدعو فن النقد لتقسيم القراء لدرجات، وإذا ابتدأنا بالدرجة الأخيرة، نلقي قراء الأخبار المحلية الذين لا يودون إلا معرفة ما صار حولهم وما وقع في جوارهم، ويأتي في الدرجة التي فوقها القراء الذين يقرأون لأحياء عامل التأثر في نفوسهم، ويدخل عادة في هذه الطبقة النساء والشبان ويتبع هؤلاء الذين يقرأون ليستفيدوا ويتعلموا ثم الذين يقرأون ليتلذذوا بجمال الأسلوب وبراعة الإنشاء. وليس بين هؤلاء جميعاً من يصح أن يطلق عليه اسم قارئ، لأن القارئ الحقيقي في نظرنا هو من يقرأ ليعيش أكثر من مرة واحدة وإن هذه الرغبة التي هي ثورة على طبيعة الحياة ونظامها قد يكون ما يفسر برغبة الابتعاد عن الحقيقة والواقع والتخلص من السآمة التي تورثنا إياها الحياة التي نحياها في كل يوم. ولكن الحقيقة غير ذلك فمظاهر هذه الثورة النفسية هي مظاهر تستتر تحتها غاية سامية شريفة من شأنها أن تحدو بالذات لمعاناة المصاعب والانغماس في تجارب الحياة العديدة والتوصل لمعرفة أشياء كثيرة لا تساعد طبيعة الكون على الوصول إليها. فقراء شكسبير ومونتيين وبول فيفال مثلاً لهم صفة عامة تجمع بينهم وهي رغبتهم بأن يزيدوا في عدد الحياة الواحدة التي يحيونها لأن ما تمنحه الطبيعة لهم من المدارك في كل يوم مما يجري حولهم لا يطفئ ظمأ نفوسهم وهم يعرفون أن ما يستطيعه الإنسان محدود بسيط فيأسفون لذلك ويتألمون من جرائه.
حينما رسم ميشيل آنج في سقف قاعة سيكستين أولئك الأنبياء المنصرفين إلى القراءة والذاهلين بها عن سواها، أولئك الأنبياء الذين لا يستطيع ميشله أن يتكلم عنهم إلا ويضطرب صوته بالبكاء فإنه لم يخطئ بتقديره أهمية العمل الذي صورهم منصرفين إليه ومأخوذين به عن أنفسهم. لقد كان يعلم ولاشك أن أسمى ما كان يرمي إليه ذلك العصر هو تخليص الإنسان من الطراز الوحيد الذي يعيش عليه وإفهامه أن هنالك عيشاً أخر يجب اكتشافه ومعرفته. وهذا أعظم ما رمت إليه مدرسة أثينا وفلسفة الإغريق القدماء ولقد جاء عصر التجدد الغابر من بعد ذلك يعارك ويجالد ليوسع في الإنسان مداركه وتجاريه فيفسح