قد نشعر عند النظر في آثار الشعراء والموسيقيين والمصورين والعلماء والفلاسفة بشيء من الاستحسان والإعجاب البسيط دون أن ندهش أو نتحير، وقد تعورنا عند النظر في بعض آثار الفن والعلم هزة نفسية عميقة فلا ندري كيف تم لصاحبها هذا السحر وكيف تأتى له هذا التركيب حتى خرج عن المعتاد. فإن كان الأثر الفني بسيطاً وضعناه في جنس الأشياء المألوفة ولم نحفل به، وإن كان عظيماً لم نجد له جنساً ندخله فيه بل تحيرنا ودهشنا بصفاته التي لا يمكن إرجاعها إلى أي نوع من الأنواع المعروفة. والمبدع الذي يبدع آثار الفن، وعجائب الصناعة، وحقائق العلم، ومذاهب الفلسفة نسميه عبقرياً. ونسمي صفته هذه بالعبقرية. إذن فالعبقرية هي القدرة على إبداع الآثار العجيبة في الفن والعلم والفلسفة. كأن الناس لا يعترفون بالعبقرية إلا للرجل الذي لا يقيم معهم في كهف الحياة الضيق ولا يمشي معهم في طريق الحياة العملية، بل يعلو إلى أفق غير أفقهم ويكون من طور غير طورهم. فلا يحرك الشعر نفوسهم إلا إذا احتوى على موسيقى جديدة وروح حديثة لا عهد للشعراء بها من قبل. ولا يفتنون بصورة من بدائع التصوير إلا إذا بعثت هذه الصورة في نفوسهم نسمات اللانهاية. فكأن في الأثر الفني الجديد شيئاً لا يدركه الخيال ولا تكشف عنه الذاكرة، وكأن تحقيقه يحتاج إلى جهود لا طاقة لنا بها. نعم إن بين العبقري وعامة الناس صلة إعجاب، ولولا هذه الصلة لما أدركوا وحيه، ولا فهموا لغته ولكن المسافة التي بينهما لا تقاس بمقياس معروف. ولذلك كانت صلة الناس بالعبقري لا تقتصر على الإعجاب فحسب بل تنقلب إلى احترام وحب والرجال كما قال (شامفور) أشبه بحجارة ألماس، كلما عظم حجمها واشتد لمعانها، ازدادت قيمتها وقد يزداد حجمها فيبلغ درجة لا مجال فيها إلى تقدير الثمن، إذ هي باهظة لا يستطيع أحد أن يدفع ثمنها وهذا معنى قةل ابن سينا عن نفسه:
لما عظمت فليس مصر واسعي ... لما غلا ثمني عدمت المشتري
وكثيراً ما يبتعد المعجبون بآثار الفن عن العالم المحسوس فيصيبهم غيبة من شدة التأمل والتلذذ بالجمال. لأن حياة العبقري لم تتألف مما هو متبدل محسوس بل نسجت من أحلام الناس ونزوعهم إلى الخلود وتطلعهم إلى المثل العليا.
لا أريد الآن أن أبحث في صفات العبقرية وأطوارها وأنواعها بل أريد أن أذكر شيئاً من