العناصر التي تبني عليها. لاشك في أن البحث عن عناصر العبقرية يحتاج إلى نطاق أوسع من النطاق الذي حددت به هذا الموضوع. ولذلك تراني مضطراً إلى حصر البحث في عنصرين أساسيين وجدت بينهما وبين حياتنا علاقة حقيقة. وهذان العنصران هما الغريزة والثقافة.
فما هي الغريزة؟ الغريزة هي ميل فطري للقيام بأعمال مشتركة بين أفراد النوع تبلغ درجة كمالها منذ تولدها ومن غير أن يتعلمها الفرد. وهي ذات تعلق بالشروط المحيطة به إلا أنها ثابتة لأن الفرد يقوم بها على نمط واحد وهي فاعلية عمياء لا تدل على أن الفرد شاعر بالغاية التي يسعى وراءها. فالنحلة تنسج أقراص العسل بالغريزة لا بالعقل والطير تبني أوكارها بهذا السائق الطبيعي لا بحكم التأمل العقلي. فهل يهتدي العبقري إلى صور الفن كما تنسج النحلة أقراص العسل، وهل يبني المهندس بناءه كما تجمع الطير عيدان القش وأوراق الشجر وترتبها موافقاً للغاية التي تقصدها أو بعبارة أخرى هل العبقرية فاعلية عفوية لا أثر للجهود العقلية والعمل الإرادي والكسب في تكوينها؟
قال (لامارتين): ياصاحبي! لم يكن غنائي إلا كتنفس الطفل وتغريد الطير وهبوب الريح وخرير الماء الجاري
ومعنى ذلك أن الإبداع إنما يكون بالطبع أي بالملكة الأولى التي لا أثر للكسب فيها. مثال ذلك أن كثيراً من الشعراء لا يعرفون من أين يأتيهم الوحي ولا يدركون كون كيف يتوصلون إلى الإبداع فكأنهم يتكلمون بلغة الملأ الأعلى وكأنه لا إرادة لهم فيما يفعلون. وقد قال (شوبنهاور) إن أول الصفات الدالة على العبقرية هي قوة الحدس في الكشف عن حقائق الأشياء، فبينما يحتاج الإنسان الاعتيادي إلى المحاكمة والبرهان تجد العبقري يدرك بالحدس ما يحتاج غيره في إدراكه إلى زمان فكأن العبقرية خارجة عن نطاق الزمان في وصولها إلى الحقيقة. وكأن الإبداع نتيجة عفوية لما في طبيعة الإنسان ومزاجه واستعداده من العوامل، ومن الصعب أن نرجع هذا الحدس وهذا الاستعداد الطبيعي إلى عمل غريزي، لأن الغريزة فاعلية عمياء، لا تجديد فيها بحسب الظاهر ولا إبداع بل هي على نمط واحد. انظر إلى النحلة إنها لم تغير نسج أقراص العسل منذ آلاف السنين، وإذا كان في الغريزة شيء من التغير فهو خفيف جداً لا قيمة له إذا نسب إلى إبداع العقل وإشراق