أنحبس الغيث عن الشام سنتين متواليتين فغاضت الينابيع وشحت مياه الأنهار وأغبر أديم الأرض وجالت أشعة الشمس اللذاعة خلال النبت المريض الذاوي فلم تدع بقلاً إلا صوحته، ولا زرعاً حدثته نفسه بأن يستأسد إلا أردته، ولا زهرة نضرة إلا أذبلتها ولا عشبةً مسكينةً متواضعة إلا أيبستها. وراقت صفحة السماء فمل الناس زرقتها واختالت ذكاء في جبروتها دون أن يحجبها عن الأرض حاجب حتى لكأن الغيوم أسماء في المعاجم لا مسميات لها في السماء. فأين الطخارير ترنق الجو بخيوطها البيض القطنية، والنيرات السحاب كأنها أمواج الخضم المتدافقة، والمكفهرات كالجبال ركاماً، والدجنات المعصرات الباعثات الغيث أنهاراً. لقد أنسينا كل هذه وهي بواعث الحياة فينا فلا سحاب يبكي ولا أرض تضحك وليس في الجو سوى الشمس المحرقة تضحك النهار من بؤس الفلاح وشقائه وبودها لو كانت الأرض غير مستديرة إذن لضحكت منه ليلاً. . .
وأصيبت مياه بردى بداء العقاد فلصقت بالأرض تتمور وتترجرج كأنها ترتقب من يدفعها إلى جنات الغوطة دفعاً وهي التي كانت بالأنس صخابة جرافة لا يعترضها عارض في تيارها. وتهامست الأشنة والطحالب بأنها فرصة يجب اهتبالها فراحت تفرش في عرض النهر بساطها السندسي وأليافها الخضر الحانئة أرائك يترفق عليها البعوض واليعاسيب وحواجز تمنع قطرات الماء أن تسيل. وكلما أستأصلها الأكارون عادت فنمت واشتبكت بين ليلة وضحاها هازئة بمجرفة الفلاح ومره كأنها تثأر لنفسها من ظلمه وظلم الماء معاً. وتباشرت الضفادع وتنادت قائلة: حيّ على رغد العيش وهناءة الرزق وهيا إلى فتح الفتوح في قاع الجداول والمجاري وراح قويها يستنفر ضعيفها فما هي إلا أيام قلائل حتى كانت مملكة الماء في قبضة يدها فأعرست بالرفاء والبنين وأنجبت خير نسل ملأ الفضاء نقيقاً. . . . وراسل ملك الضفادع في بردى خدينه في قويق يلاحيه البيتين الآتيين زاعماً أنهما إنما يجب أن توصف بهما محامد الجفاف في نهر دمشق والغوطة لا في نهر حلب وهما:
إذا ما الضفادع نادينه ... قويقٌ قويقٌ أبلى أن يجيبا