عاش الدكتور جميل في باريس، كما عاش (راما) في الغابة المقدسة، لم يعلق فؤاده بحب، ولا شغف بلعب، ولا أخذ بشيء مما يؤخذ به الشبان. وقد عاد إلى البلاد، طاهراً كالنار، ثابتاً كالجبل. .
كان في حياته المدرسية، في دمشق، أحب فتاة مسيحية تدعى إيفون وهي على حظ كبير من الجمال والتهذيب، ولها صوت حنون يزيدها رواء، ويعطي كل شيء حولها قلباً يفيض بالحب ويتذكر. . .
لم يكتب إليها منذ سنوات، ولكنه كان مطمئناً إلى أخلاصها، عارفاً أنها تنتظره، وقد رآها أمس في حلمه، بل قد عاش حيلته كلها في حلم الليلة الفائتة.
رأى نفسه في مدرسة السيدة ماري أم إيفون، طفلاً بكاءً لجوجاً، تمازحه ايفون وتطايبه وتبدل دمعته ضحكة عالية!
ثم رأى إيفون في أغنى حلة لبستها طفلة، تغني وتعزف على البيانو، بين يدي مفتش للمعارف يطرب لها أي طرب، ويبشرها بمستقبل عظيم، ويقول لوالدتها: إن فتاة لها جمال بنتها وفنها، يجب أن تكون زوجة باشا!
أزعجت جميل هذه النصيحة البغيضة، فهجم على المفتش يلكمه ويشتمه، ولكن المفتش قابل غضبه ببرودة هائلة، لأن السيدة ماري أفهمته السر: فقد وعدت (جميل) بأن تكون إيفون زوجة له، تسكن معه في بيت واحد وتغني له صباحاً ومساء لا تطلب منه لقاء ذلك إلا أن يحفظ دروسه ويصلح سيرته، فكيف يريد مفتش المعارف أن يزوجها، متى كبرت، من باشا، لم يحفظ دروسه ولا تأدب ولا مزية له سوى أن له شاربين طويلين، وصوتاً ضخماً؟
استعرض جميل صور حبه واحدة واحدة، وانتهى به المطاف إلى يومه الحاضر وقد بلغ به هو وايفون سن الصبا العنيف، فأخذ صورة ايفون وأنشد بصوت سحبه من أعماق نفسه: