ما أشد الشبه بين فاليري والفيلسوف العظيم ديكارت، فقد وصل الاثنان إلى النثر من طريق الشعر والعلوم وأحب كلاهما في صباه الشعر حباً جماً. ولم يشأ ديكارت أن يحترف في بادئ أمره مهنة الأدب بل تطوع في إحدى فرق الجيش ليسيح في أرجاء العالم الواسع طمعاً أن يكون أحد المتفرجين على مشاهد الألعوبة الإنسانية التي تمثل على مسرح الوجود لا أن يكون من ممثلي هذه الألعوبة. وفاليري أيضاً أبى إلا أن يكون أحد المتفرجين على مناظر العالم. قضى فاليري مثل ديكارت عشرين عاماً في التأمل والتفكير ولم يذع الاثنان للناس نتيجة تأملاتهما إلا بعد انقضاء عشرين عاماً من عزلتهما، والاثنان شديدا الشبه في هذه النواحي الثلاث: قوة التفكير، ومحاولة تجديد الفكر الإنساني، وإعادة بنائه على أسس جديدة وقويمة.
حياة الرجل
ولد فاليري في مدينة سيت بالقرب من مونبليه سنة ١٨٧١ وتلقى دروسه الابتدائية في مدرسة بلده ثم انتقل بعدئذ إلى مونبليه وقد ترك لنا ذكريات طريفة عن حياته الدراسية وآراء قيمة في الدرس والتعليم تفسر لنا نزعته الخاصة في الحياة وتكشف لنا عما انطبعت عليه شخصيته الفذة:
لنا أساتذة يتسلطون علينا بالإرهاب ونظرتهم إلى الأدب هي نظرة عسكرية محضة. وقد خيل لي أن للسخافات مكاناً واسعاً في البرامج المدرسية، وإن ضعف النفوس ونقص الخيال هما من العوامل الفعالة في نجاح الكثيرين في المدرسة، ولذا نشأت عندي روح معرضة للتعليم في زماننا
كان لهذه الروح المعارضة للتعليم أثرها في تكوين فاليري ودفعه للارتفاع عن المستوى العادي والخروج عن حيز المجموع ولا عجب إذا أدت به هذه الروح المتمردة إلى رفض هذه الحقائق التي يدعوها رسمية والتي يقدمها الأساتذة إلى تلاميذهم عادة وإلى إعادة بناء صرح حياته الفكرية من جديد.