السعادة من الأمور التي فكر الإنسان فيها من القدم فهام بها وعشقها، ولا يزال اليوم يبحث عنها كما يبحث الجائع عن الطعام. ذلك لأن ارتقاء الصناعة والرفاه لم يحسن حالة الإنسان ولا قربه من البهجة التي ينشدها والسعادة التي يحلم بها.
فالألم الذي كان يمزق الأحشاء ويضني النفوس في الماضي لا يزال اليوم يمزق أحشاء الملايين من الناس والغم الذي ساور نفوس الأقدمين زاد بازدياد حاجات الحياة وكثرة أسباب المعاش وتعقدها. نعم إن إنسان اليوم أحسن حالاً من الإنسان الأول ولكنك لا تزال ترى على وجه الأرض أنساً يتضورون جوعاً ويئنون تحت عبء البؤس والشقاء.
لقد بحث الفلاسفة منذ القدم في الطريق التي يجب على الإنسان سلوكها للوصول إلى السعادة وهم اليوم لا يزالون يبحثون أيضاً عن طريقة يبددون بها ما يحيط بالإنسانية من الظلمات. لكل زمان فلاسفة ولكل فيلسوف أحلام وكل خيال حقيقة. كل فيلسوف يضع في مصباح الحياة ذبالة جديدة وترتيباً جديداً فأما أن يصبح نور الحياة واضحاً بهذا الزيت الجديد وأما أن يمسى ضئيلاً. فما هو النور الجديد الذي وضعه ابن سينا في طريق الوصول إلى السعادة؟
١ - الخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرف
أن رأي الشيخ الرئيس في السعادة تابع لرأيه في العناية الإلهية. وقد عرف ابن سينا هذه العناية الإلهية بقوله:
العناية هي إحاطة علم الأول بالكل وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على حسن نظام ومعنى ذلك أن العناية هي علم الإله بكل ما في الكون من الأشياء وبكل ما يجب أن تكون عليه ليتم اتسق الوجود ويكون الخير فيه غالباً على الشر. وهذا يدل على أن ابن سينا كثير التفاؤل. فهو يعتقد أن الخير يفيض من المبدع الأول على هذا العالم. كأن الموجودات كلها سابحة في بحر من الخير، كل منها ينال من الخير ما هو جدير به وما هو لائق له. وهذا النظام هو احسن نظام يمكن أن يكون عليه الوجود، وهذا العالم هو أحسن ما يمكن أن يتصوره العقل ويدركه الخيال.
ولكن كيف وجد الشر في هذا العالم وما هي حكمة الله من وجوده. كيف فاض الشر من المبدع الأول وهو خير مطلق. هو تتولد الظلمة من النور، أم هل ينشأ النقص عن الكمال.