وصف الأستاذ في القسم الأول من رحليه التي أرسلها خصيصاً
إلى الثقافة سفره من بيروت وما رآه في حيفا وبور سعيد ثم أتى على وصف اثينة وسلانيك وبلاد الصرب حتى وصل بلغراد وقد نشر هذا
القسم في الجزء السابق من الثقافة والمقال التالي هو القسم الثاني
من الرحلة، وسيليه القسم الأخير في الجزء القادم.
٢ تموز سنة ١٩٣٢ - بلغراد
الغيث يهطل في هذا اليوم من تموز فنحن إذاً لا شك في أوروبا. خرجت من محطة القطار هائماً على وجهي تائهاً في أحياء المدينة ولقد رأيت فيها حدائق عامة غاية في البهجة والجمال، كثر الورد في جنباتها وتكاملت أغراسها بالزهر. وفي المدينة أيضاً تماثيل فخمة ولكنها جافة خشنة والمدينة جديدة وأنيقة تدل على ما بذل من جهود كثيرة في سبيل إصلاحها وأعمارها على الطراز الحديث، غير أن يوغسلافيا ينقصها الوحدة القومية فليس من رابطة تصل بين الكروات من أهالي زغرب وبين الصربيين القدماء من أهالي نيش أو أهالي اسكوب سوى أنهم أقاموا عليهم ملكاً واحداً ولكن ماذا نتج عن ذلك وعن هذا الاشتراك في الملكية؟ لقد زعمت معاهدة فرسايل أنها ستقيم العدل بين الأمم على أساس القومية. ولكن ألم تكن عظيمة المكر بذلك. ألم تقم هذه المعاهدة في يوغسلافيا سيطرة ملك الصرب الحالية مقام الاستبداد الملكي المجرى النمساوي الغابر؟ والشعب الكرواتي أليس هو الآن عبداً كما كان قبل الحرب عبداً لفينا؟. .
وانحدرت في سيري حتى وصلت ضفاف نهر الدانوب الذي يشبه البحر بسعته وانفراج شواطئه فرأيت أمواجه الضخمة تتطاول هائجة إلى أن تتصل بالأفق تحت سماء غبراء. ولقد ذكرني ذلك نهر الفرات الكبير في ضواحي الرقة وهو يجري بين ضفتيه المتجهمتين، ولكن على ضفاف الدانوب قامت بدلاً من رمال الصحراء وأوحالها أرصفة عظيمة، ينقلون منها إلى السفن ومن السفن إليها، قطع الأشجار وألواح الأخشاب بلا انقطاع ولا كلل.