هل نظرت على الفلاح، عند غروب الشمس، كيف يرفع يده إلى السماء وهو يبذر حبات القمح؟ إن يده لترسل إلى الأفق الأعلى ظلال الأمل، وتطبع على هام الأفلاك صورة العمل. أنظر إليه أنه يطأ بقدميه تراب الأرض، ويغير بأحلامه مجرى الأرض، ويغير بأحلامه مجرى النجوم. لم يدفن حبات القمح في بطن الأرض إلا ليحييها. فكأن الأرض قبر تنبعث منه الحياة وكأن الفلاح حاكم تخضع العناصر لأمره. أنظر إلى الشمس كيف هبطت إلى الأفق. إنها تكاد تغيب من وراء الجبال. ها إن ظل الفلاح صار عظيماً. أنه أعظم من الأرض، لأنه قد ستر السماء. كلما قربت الشمس من الجبل عظمت ظلال الأشياء، وتغيرت ألوانها، وتقرب الناس من نهاية العمل. لقد غمرت الشمس سطح الأرض بموج من الذهب فأصبح الفلاح غنياً، لأن معوله وآلته وكيسه وثيابه قد انقلبت إلى إبريز خالص. ألم تر كيف رفع رأسه وشمخ بأنفه ونظر بعينيه المطمئنتين إلى الأفق؟ أنه شاعر بقيمة العمل الذي أنجزه. إنه عالم أن حياة الملايين من الناس متوقفة على نتيجة جهوده ونجاح أعماله. لم أجد في صورة المساء أجمل من الفلاح، لأنه أجمل من الشمس، أجمل من سنابل الذهب، لا بل أجمل من السماء المظلة والأرض الساكنة ليس الفلاح ابن الطبيعة، بل الطبيعة بنت الفلاح، لأنه قد قلب الأرض، وغير صورة الأشياء. نعم إن الإنسان لم يبدع العناصر ولم يرتب الإكوان ولكنه أثر في تركيبها وتبديها ونقلها من طور إلى آخر حتى كاد كل ما في الطبيعة يحمل أثراً من عمله واختراعه. فكم أرض فقراء قلبها إلى جنة غناء، وكم رابية حولها إلى سهل فحفر فيها الأنفاق والترع، ثم غرس فيها الأشجار فأتت كلها ولم يحفل بالراسيات من الجبل، بل تسنم الأطواد والأعلام وجعلها سهلة المرتقى، فأنشأ فيها المسالك والمجاري وبنى الحصون والمعاقل ثم سخر اليم كما سخر الأرض والجو وتغلب على الطبيعة.
وهذه الأكوام الذهبية من القمح، إلا تدل على قوة الإنسان وسلطانه، ألا تدل على الجهود التي بذلها الفلاح في تسخير الطبيعة؟ تقول الأساطير أن الناس تعلموا زراعة القمح من (أوزير يس) إله المصريين ومن (سيرس) ابنة زحل، لأن هذه الآلهة الشقراء تسهر على حصاد القمح كل أيام السنة. ولو بحثت عن تاريخ القمح لما تبينت له في ظلمات الزمان ابتداءً. فهل زرعته (سيرس) في حقول (الأنا) في سيسيليا، أم هل أنبته (أوزير يس) على