كتب الأمير شكيب ارسلان منذ ست وثلاثين سنة هذا الفصل وقد بلغه الخبر باشتداد المرض على صديقه السيد جمال الدين الأفغاني، وقد أرسله إلينا لنشره في الثقافة كذكرى.
إن كانت الحكماء مصابيح الأرض، وكانت الدنيا توحش حقيقة لفقدهم، فأجدر أقسام الدنيا بذلك استيحاشا، وله وجوما، بلاد تأذن الله بذهاب حكمائها، وانتقاص الأنوار في أرجائها، وفتر عليها في توزيع الرجولية، وسمح بزيادة مناظرتها في أنفال المدنية.
ألا وعلى مقدار حاجة الوقت، يغلو الفضل، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، وليس في هذا الشطر المشرقي ذو عقل إلا وهو يدرك أن من الكواكب اللامعة في أفق المشرق المباهي بها أمثالها في آفاق المغرب، عدة هذا الوطن في الفخار، إذا تجمعت الأحساب، والحجة الباهرة إذا أدلى كل قوم بحجة فضل، في معرض، حساب الفيلسوف الكبير السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني عافاه الله، وأمتع به
فما زال هذا الحكم منذ طلع في الشرق، علما منيرا تعشو العلوم إلى نوره، وشهابا ثاقبا يستنير به الوقت في مشتد ديجوره، وملاذا يستضاء بالأصيل من رأيه، ويستعان بالأصيل من رأيه، ويستعان بالمستفيض من دربته ورشده، شعلة ذكاء متوقدة، ولجة علم متدفقه، وكعبة فضائل محجوجة، ونفسا هذ بها السلوك وأخلصها التجريد، وسبكت أفلاذها الحكمة، وصفى جوهرها
التأمل في عالم الغيب، إلى نزاهة مشرب شمخ مارنها، وعفة روح تزكت شواهدها، وتمحض في حب الوطن وخدمة الملة وانصراف إلى هذا الوجه الأسنى دون الوجوه كلها، ووقف حياة على هذا المقصد الأشرف دون المقاصد جميعها، زاهدا في الدنيا، طارحا زخرفها، محتقرا متاعها، آخذا من الفلسفة بمصاصها، مؤثراً للقسم العملي منها، رائداً وراء إصلاح الجماعة، قاصراً مطلبه الشخصي على حرية القول، عامل بمبدأ اقراطيس الفيلسوف اليوناني، الذي كان يحث مريديه على الفرار من حظوظ الدنيا، قائلا:(لا يليق بالفيلسوف من الأوصاف إلا الحرية).
هذا إلى فضل تتقطع بمنافسته أنفاس النظراء، ومعارف تموت حسرة عليها الحكماء، مما يندر أن يجتمع في دماغ، ويعز تكرر المنة به في كل آن
وقد بلغنا الآن وحق للخواطر أن تجم، وللقلوب أن تجب، أن داء الحكم المشار إليه قد