في فرنسا مقاطعة الأحلام والتأملات، بعيدة عن العالم، منفردة في الجنوب، تلامسها أمواج البحر الاطلنتيكي وتتراكم في سمائها الغيوم، حزينة قاحلة تمتد على شواطئها الصخور ويغشاها الضباب، ينشأ سكانها في ذلك الإقليم الكئيب فتساورهم الكآبة ويقضون حياتهم في وحشة وجود غير الذي نحن فيه فتثور عواطفهم ويتسع خيالهم ويتولد في قلبهم اليأس. بريطانيا الصغرى وطن شاتوبريان ولامونيه اللذين تتغلب فيهما دقة الحس على قوة العقل - هي أيضاً وطن ارنست رنان.
ترعرع رنان بين والدين تقيين وقد ظن نفسه أهلاً للرهبنة فانقطع إلى مدرسة اكلير كية ولكنه بعد أن تعلم وأنهى تحصيله شعر بأنه أضاع إيمانه بالدين فرفع تحت تأثير أخته هنرييت ثوبه الأسود ورجع إلى تلك الدنيا التي هجرها بدون تفكر ولكنه لم يعتم أن شعر بعدم مؤالفته لحياة الناس كأن هناك هوة عميقة تفرقه عن أقرب الخلق إليه. فانعزل عن الدين والدنيا وانكب على العلم وقد قال وهو في مقتبل العمر التفكير والحس هما كل نفسي، هما ديني وهما ألهي.
أراد رنان أن يداوي اضطراب نفسه بالدرس والمطالعة. فتش عن حقيقة الأديان فلم ير إلا أفكاره المضربة وأخلاقه اليائسة وأراد أن يورد لنا صورة صادقة للشعوب البائدة فمثل لنا ما أنتجه خياله التائه الحائر. لم يك لرنان رفيق غير نفسه وقد أبدع لنفسه عالماً وهمياً عاش فيه واسكن فيه الأشباح التي أبدعها وفهم موسى والمسيح ومحمداً لا الذين عرفهم التاريخ ولكن الذين وصفهم ارنست رنان نفسه.
إن الخيال ضروري في التاريخ فالخيال يهب الحياة للأجيال الميتة ينعشها فينهض أبطال الماضي من غفلتهم ليعيشوا أمامنا كأنهم أبناء عصرنا ونشعر بأنهم رجال مثلنا يفرحون ويتألمون كما نتألم ونفرح، لهم عيوب وفضائل وأجساد ونفوس.
قاوموا الأيام كما نقاومها نحن فتارة فشلوا وتارة فازوا وطبيعة الإنسان واحدة لا تغيرها الأزمان، والعاطفة ضرورية لكتابة التاريخ إذ يستحيل على أن يتجرد عن عواطفه مادام إنساناً ولكن العواطف لا تمنع العدل في الحكم ولا يضل المؤرخ إن كان مخلصاً عن