. . في آخر حدود الإنسانية، في وادٍ كثير الأرائك، تحيط به الجبال من كل جانب ولا تنفذ إليه أشعة الشمس إلا من بين أوراق الشجر، كان يعيش الشاعر الأمريكي (أدغاربو) مع بنت عنته أيليونور. ولدا في الوادي وترعرعا فيه، لا يعرفان من البشر غير نفسهما، ولا من الطبيعة غير الوادي، وكان يجد كل واحد منهما في رفيقه سلوى لروحه وأمنا. ولكن أيليونور، التي بدأ أبن عمثها يفهمها ويحبها، أصيبت بمرض شديد لو أصيب به غيرها لتمنى الموت وناداه:
ياموت، خذ ماأبقيت الأيام والساعات مني
بيني وبينك خطوة إن تخطها فرجت عني!
وأما أيليونور، فلم تشأ إن تموت، لا حباً بالحياة الوجيعة، المحمومة، ولكن لأمر لم تبح به لأبن عمتها إلا في اللحظة الأخيرة من العمر، فالفكرة التي كانت تخافها هي أن خالتها الوادي بعد موتها ويعشق فتاة غيرها من السواد! قالت ذلك للشاعر، فركع عند قدميها، ووعدها أن يبقى محباً لها إلى الأبد أميناً على ذكراها حتى النفس الأخير، فالتمعت عينا أيليونور بنشوة الظفر وتنفست الصعداء كأنما أزيح عن صدرها غم جاثم، ورجفت، وذرفت دمعاً لاهباً، ثم أطمأنت في سريرها، وقالت للشاعر وهي تموت: إنها تقديراً لما صنعه في تلطيف مرضها، وتهوين آلام الموت عليها، سنسهر عليه، وهي روح في السماء وتزوره في الليالي، وإذا أبى الله عليها أن تزوره بشخصها، فستمثل له في زهرة يأخذه جمالها وتتنهد قرابه كلما بزغ الفجر وتطيب النسمات التي ينشقها بعطر تستعيره من مباخر الملائكة! فالت هذا وصعدت آخر أنفاسها أما (أدغاربو)، فعاد يتصور إن في الزهرة والنسيم والماء والعشب في كل ذرة من هذه العناصر شيئاً من بنت عمته، وغرامها ولهوها، وبالجملة مظاهر مختلفة لبنت عمته: على هذه الأوهام شيدت مدرسة الشعر الرمزي. فشاعر الرمز يغوص إلى أعماق الأشياء ويتخل لكل جمالشخصيةولكل جمال روح انه لا يشغف بهذه التشابيه - وأكثرها سمج أو مبتذل - التي شغفت بها طائفة كبرى من شعرائنا، فراحت تشبه العيون بالسيوف، والحواجب بريش الغراب، والقامة