للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[هنري برغسون والأخلاق]

كنا ننتظر بعارغ الصبر ظهور كتاب (هنري برغسو) في الأخلاق. وكنا نشك، قبل ظهوره، في قيمة التطور المبدع وطريقة الحدس. إلا أن هنري برغسون بدد كل ما يحيط بمذهبه من الشك وأخرج لنا في هذا العام كتاب الأخلاق الذي سماه: منبعي الأخلاق والدين (١).

لسنا نستطيع أن نلخص بهذه الكلمة كل ما جاء في كتاب الأخلاق من الأفكار الصائبة والأحكام العميقة، لأن كل فقرة لا بل كل كلمة من هنري برغسون تحتاج إلى إيضاح دقيق وشرح طويل. ولا غر فهو فيلسوف العصر، ولم نجد فيلسوفاً بلغ منذ عهد (كانت) و (شوبنهاور) الدرجة التي بلغها مهنري برغسون من التفكير العميق والتجريد العجيب والبيان الساحر. إذا قرأته لا يستولي على عقلك فقط بل يأخذ بمجامع قلبك فتجد في كل كلمة من كلماته سحراً يدعوك إلى أن تكون من أصحابه وتلاميذه. قال (ويليم جيمس) في كتاب التجربة (ص - ٢٥٦) (٢):

أقرأ هنري برغسون، تجد في كل صفحة من صفحاته، لا بل في كل سطر من سطوره أفقاً جديداً. فكأنك تشعر بنسمات الصبح أو تسمع تغريد الطير، وكأن اللغة التي يكلمك بها هي لغة الحقيقة والوجود، لا لغة التعليم التي ينقل غبارها إليك طائفة من الأساتذة الذين تعودوا أن يغربلوا أفكار غيرهم

أجل إن اللغة التي يكتب بها هنري برغسون هي لغة الإلهام، وطريقته هي طريقة الحدس. أما أسلوبه فمعجزة من معجزات الفن وهوساحر عجيب.

وليس يختلف هذا الأسلوب في (كتاب الأخلاق) عنه في كتاب التطور المبدع بل تشعر في كل منهما بالدافع الذي يتكلم عنه برغسون نفسه، ويخيل إليك أن المؤلف لم يغلق لك أفقاً أدنى إلا ليفتح ل أفقاً أعلى. وفي الحق أن للأخلاق كما للدين آفاقاً عديدة. ولك أفق مرتبة في الكمال تختلف عن مرتبة الآخر. إلا أن فيلسوف الحدس أرجع هذه الآفاق المختلفة إلى أفقين، أحدهما محدود متناه، والآخر غير محدود. وهذا الأفق المحدود هو أفق البيئة الاجتماعية الضيقة التي يعيش فيها الإنسان مقيداً بالعادات والتقاليد. أما الأفق الثاني فهو أفق الإنسانية الذي يتجرد فيه الفر من نطاق الحياة الاجتماعية الضيقة ويرتقي إلى إدراك المثل العليا السامية والغايات المجردة. ولذلك كان الأفق الأول ضيقاً والثاني واسعاً، يخضع

<<  <  ج: ص:  >  >>