الفرد في الأفق الأول لضرورة التقاليد والواجبات الاجتماعية كما تخضع الأجسام لضرورة النواميس الطبيعية، ويتجرد في الأفق الثاني من هذا التضييق الاجتماعي، ثم يرتقي بأحلامه إلى مناهضة العادات المحدودة والقواعد الضيقة. الحياة الأولى أشبه بحياة المقيمين في كهف مغلق الأبواب أما الثانية فهي حياة فضاء لا جدول نهاية له. أنظر إلى واجبات الأفراد التي لا حيلة لهم في اختياراها سواء كانت عائلية أو وطنية، فإنهم مرغمون على إتباعها بسائق الغريزة وحاكم العادة لأنها واجبات اتباعية وذات نطاق محدود، ثم أنظر إلى وحي الأنبياء وأحلا الفلاسفة ودعوة المصلحين تجد أنهم لا يرغمونك بسائق التقاليد وضرورة الاجتماع على إتباع القواعد المألوفة، داخل نطاق المجتمع الضيق، بل يكلمونك بلغة الإلهام والحدس وتجد في أقوالهم ما يدعوك إلى الخروج من الأفق الضيق ويحملك على إتباعهم. فهناك إذن منبعان للأخلاق والدين أولهما الحياة الاجتماعية الضيقة والثاني حياة الإنسانية الواسعة. المنبع الأول محدود والثاني غير محدود. وللانتقال من المتناهي إلى غير المتناهي رجات لا ب للمتحرك من المرور بها. والفرق بين هذين النوعين من الأخلاق كالفرق بين الإدراك والأحلام. لأن الإدراك مقيد ثابت، أما الأحلام فمتحركة ومتبدلة. وهذا ما ينقلنا من السكون إلى الحركة ويدخلنا في فلسفة التصوف التي استخرجها هنري برغسون من كتاب التطور المبدع. وهو كتاب الكون والتجديد والإبداع والحياة والحب.
ومما هو جدير بالذكر أن هنري برغسون لم يترك في كتاب الأخلاق فكرة من فكره الأولى بل تعصب لها ودافع عنها وحرك في أفكاره تلاميذه دافع الحياة وعالم الإبداع. لم يتراجع أما حملات المنتقدين واعتراض المعترضين بل زاد افتخاراً بتصوفه وروحانيته.
وقد فرق في كتابه بين ديانة الجماعات الضيقة وديانة الإنسانية الواسعة التي ليس لها وطن. . وفرق أيضاً بين التقاليد الدينية التي تضيق على الأفراد والعبادة المفعمة بالأحلام والحب. وقال أن الإيمان ليس خوفاً وخشية بل هو أمان من الخوف. إذن فالديانة المتحركة خير في مذهبه من الديانة الساكنة وهذه الديانة المتحركة هي طريقة التصوف، ولا خلاص لمدنية الصناعة من شقاء المادة إلا بإبداع جديد في أفق الحياة الأخلاقية والجينية وذلك بالأعراض شيئاً فشيئاً عن مظاهر الرفاه والرجوع إلى الحياة البسيطة، لأن ازدياد الرفاه