لم يبحث المؤرخون في دمشق وغوطتها إلا قليلاً مع أنها أقدم مدن العالم ولم يمح الدهر شيئاً من جمالها مع أن بابل ونينوى وصور وجبيل وغيرها من المدن المشابهة لها قد اندثرت أعلامها ولم يبق منها إلا الذكرى حتى أن بعضها زال بتمامه أو انقلب إلى قرية، أما دمشق فقد بقيت على عين الدهر وستبقى خالدة بالرغم من اختلاف شرائط حياتها، والسبب في بقائها لا يرجع إلى أسباب سياسية ولا أسباب اقتصادية، بل يعود إلى تأثير مياهها وخصب غوطتها. وليست تمتاز دمشق على غيرها من البلدان ببرداها فحسب - وهو ينقل إليها من لبنان الشرقي مياهاً عذبة - بل تمتاز أيضاً بتوزيع هذه المياه ونشاط سكان الغوطة وانصرافهم إلى استثمار الأرض استثماراً حسناً.
الوسط الطبيعي
إن الملاحظات الجوية التي قام بها العلماء منذ خمس عشرة سنة أثبتت لنا أن منطقة دمشق وما يجاورها من الراضي الشرقية محرومة من قسم كبير من الأمطار لأن سلسلة الجبال الشرقية تمنع عنها الغيوم فتهطل الأمطار في الجهة الغربية وإذا بقي قسم من هذه الغيوم فإنه لا يقطع الجبال الشرقية إلا إذا ارتفع كثيراً فيمر بالغوطة من غير أن يتكاثف ويصل إلى جبل الدروز وغيره من المناطق البعيدة. وليست قلة الأمطار هذه خاصة بالزمان الحاضر بل كانت قليلة أيضاً في الماضي وكانت هضاب دمشق يابسة وكانت مياه بردى موزعة في مستنقعات فقيرة ليس فيها ما في الغوطة اليوم من الأشجار الباسقة والخمائل الزاهرة. فليس خصب الغوطة إذن هبة من مواهب الطبيعة بل هو نتيجة لعمل الإنسان وما بذله في سبيل استثمار الأرض وأعمارها. لقد ألف الناس منذ القدم رؤية هذه الجنان فظنوها طبيعية والحق عن ذلك بعيد، لأن هذه الجنان لم تتولد على الأرض إلا بجهود الإنسان ولو استطعنا أن نعود بخيالنا إلى الماضي لرأينا الشعوب الأولى التي استوطنت هذه الأرض في صراع دائم مع الطبيعة حتى تغلبت عليها وجففت مستنقعاتها وغرست فيها الكروم وأشجار التين والزيتون.