لقد أوشك علماء الاجتماع جميعاً أن يتفقوا وكثير من الفلاسفة والشعراء من قبلهم على أن الماضي لا يموت، فهو لا يبرح ظاهراً بارزاً بآثاره تحمله الأفراد والجماعات فوق أكتافها وكثيراً ما تضيق به ذرعاً وتنوء تحت أثقاله فلا تجد سبيلاً للخلاص منه. وكما أن للفرد ماضيه الذي لا يكاد ينفصل عنه فللجماعة أيضاً ماضيها الذي تنطبع بطابعه وتجري على غراره وتخضع لحكمه شأت أو أبت. فحاضر الجماعة لا يفسره إلا ماضيها وماضيها هو الأرومة التي تتفرع عنها جميع ما يتألف منه كيانها الاجتماعي من عادات وأخلاق وعقائد وأوهام وحقوق ووجائب. وشأن هذا الماضي مهما كان بعيداً هو الذي حدا بالباحثين عن سر تطور الجماعات والشعوب وتحليل أوضاعها الاجتماعية الحاضرة إلى الرجوع لدرس تاريخ الأمم البعيدة وتفهم ما يمثله ويعيد ذكراه من أحوال تلك القبائل التي تعيش على الفطرة الأولى في مجاهل الصحارى وأقاصي العمران. ودرس الجماعة السورية الحاضرة لا يشذ عن هذه القاعدة ولا يختلف في طريقة التحليل والاستقراء عن تلك الأصول. فالسوريون لهم ماضيهم الذي لا يموت، والسوريون لهم حاضرهم الذي لا يبرح منطبعاً بطابع ذلك الماضي البعيد وفي ثنايا هذا الحاضر كثير من الظواهر الروحية والصفات النفسية التي لا يفسرها إلا ما انتقل إلى نفوسهم وامتزج بأرواحهم من عوامل الغابر.
فلقد كانت سورية منذ عرفها التاريخ وتحدث عنها المؤرخون صلة بين جهتين من جهات العالم الأربع، ومرحلة لابد من أن يجتازها ابن الغرب في طريقه إلى الشرق في طريقه إلى الغرب. ولقد حدت عوامل البيئة والإقليم والوضع الجغرافي بأبناء هذا القطر الضيق المتطاول أن ينشطوا إلى العمل ودعتهم غرائزهم إلى أن يستثمروا من موطنهم ما منحه إياه موقعه من هبات بعد أن رأوا البحر من أمامهم ورمال الصحراء من ورائهم فاندفعوا إلى البحر يركبون أمواجه ويصارعون أنواءه، فينقلون من الشرق ما يبيعونه إلى الغرب ويتاجرون في الشرق بما ابتاعوه من الغرب وينتقلون بين الشرق والغرب فيجعلون بلادهم المتوسطة محطة يستريحون ويريحون ركبهم بها ويحسبون خلال راحتهم مرابحهم ومكاسبهم التي جمعوها، ثم لا يلبثون إلا القليل حتى يعودوا إلى أسفارهم وإلى مرابحهم