لو حاولنا أن نعرف هل وجدت القرية قبل المدينة في سوريا وغيرها من بلدان الشرق الأدنى أم بالعكس ورجعنا في هذه المحاولة للأدلة التاريخية وللاستنتاج النطقي لوصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه في الشرق على الأغلب وجدت المدن، قبل وجود القرى فيه لأن التاريخ يؤيد أن أكثر المدن الشرقية قديمة جداً وإن مواقع المدن الطبيعية ومراكزها الجغرافية يشيران إلى أن فيهما من الخصائص ما ليس في غير مراكز المدن مما من شأنه اجتذاب الإنسان القديم عند بدء استقراره بعد أن سئم حياة البداوة وابتدأ بالاشتغال بالزراعة. وبقليل من التأمل يلاحظ المرء أن المدن في الشرق تقوم بالقرب من مجاري أحد الأنهر الكبيرة التي تمكن من يستقر بجانبها من ري الأرض بواسطتها بكل سهولة كما يرى بالقرب من هذه الأنهر السهول الواسعة التي يمكن ريها كلها نظراً لانبساطها ولوفرة المياه.
ثم أن هذه المدن تقوم بجانب أحد الطرق الهامة التي توصل الأقطار البعيدة بعضها ببعض وربما كانت هذه الطرق السبب الأكبر في جعل بعض المدن ذات شأن كما هي الحال مع تدمر والبتراء وصنعاء والكوفة فأنه عند تحول الطرق الكبرى التي كانت تمر بها إلى جهة أخرى تأخر جل هذه المدن أو اضمحلت بالكلية.
وبما أن أول دور من أدوار الحياة الاقتصادية التي تتلو دور رعاية المواشي هو دور الزراعة وبما أنه ليس للقرى في الشرق من مياه الري وسهولة الزرع ما للمدن فإنه يمكننا الجزم أن المدن في الشرق بوجه عام أقدم من القرى فيه وأن هذه الأخيرة ما أهلت بصورة جدية إلا بعد أن استولت على جميع السهول المجاورة للمدن واستعملت مياه الأنهر الكبيرة للري وقلت منابع الرزق بالنسبة لعدد السكان وتزاحم الخلق على امتلاك الأرض الزراعية القريبة ومن طاف بقرى سورية ورأى أن الكثير منها تعتمد بزراعتها على الغيث وأن عدداً كبيراً منها أيضاً قد تكبد مشقات جسيمة في حفر القنوات للحصول على مياه الري يتحقق صدق النظرية السالفة. . .
وبعد هذا التمهيد نريد أن نبين العلاقة بين المدن وبين القرى بعد نشأة هذه الأخيرة وازدحام