الأولى ولا يظن أحد أن العلاقة بينهما ضعيفة وغير هامة بل هي رابطة ذات أهمية عظمى إذ أنه لولا القرى لما نمت المدن ولما تجددت جيوشها ومتنت أخلاقها كما أنه لولا المدن لاشتدت وطأة التزاحم في القرى وقلت موارد العيش وتدنى مستوى المعيشة وضاق أفق الحياة وحرم الناس من درجة الرقي العالية ورقة الطباع اللتين وصلوا إليهما بواسطة المدن.
قلت أنه لولا القرى لما نمت المدن بعد وصولها إلى هذه الدرجة من الضخامة. أن القرى تمد المدن بما يتزايد فيها من السكان وهي تستوعب هذه الزيادة لا بل تتطلبها لنموها واحتفاظها بالعدد الكبير الذي بلغه سكانها ولاستعادة القوة والنشاط إليها وتجديد الدم فيها.
إن هواء القرى عكس هواء المدن جيد نقي يدعو لنشاط الجسم وتقويته ولتوسيع الرئتين فيقل بها مرض السل كما تؤدي فيها محافظة الأخلاق إلى ندرة الأمراض التناسلية وهكذا فالهدوء فيها يحفظ الأعصاب سليمة وقوية. فتتحسن الصحة وتخصب البطون ويزداد عدد المواليد وينتج عن ذلك أيضاً قوة النسل والأعمار الطويلة فتقل الوفيات وتنقص وقائعها عن وقائع الولادات نقصاً بيناً فلا يلبث أن يتزايد سكان القرية وتضيق أبواب العيش في وجه البعض فينزلون للمدن، حيث تكثر الأعمال وتتعدد أبواب الرزق ويقصد البعض الآخر المدن لتحصيل العلوم العالية والاحتكاك بطبقة من الناس أعلى مما اعتادوا عليه وبعد إذ يحصل الشبان علومهم في المدن يترفع طموح أكثرهم عن الرجوع للقرية والعيش بمحيطها الضيق ويفضلون البقاء في المدينة ليخوضوا بحر عراكها ويروا مقدار نشاطهم في السباحة فيه، كما أن الذين تتحسن اقتصادياتهم في القرية يروق لهم الانتقال للمدينة حيث مجال العمل أوسع والأمن أشد، فالمدن مركز المعامل الكبيرة والمشاريع الجسيمة. والثروات الطائلة وسوق النزعات الجديدة ففيها نظراً لكثافة السكان وشيوع قراءة الصحف واحتكاك الأفكار تظهر الثورات الفكرية وتنتشر وتتشكل الأحزاب السياسية وتتألف الجمعيات والنقابات وتتحفز كل فئة ضد مناوئيها فالمدينة ميدان تزاحم اجتماعي وسياسي واقتصادي وعلمي فيتقدم لخوض مختلف ساحاته الكثير من أهل القرى كل بحسب عدته وأهليته وبهما يقاس فوزه بين منافسيه وهكذا فأهل القرى يهجرونها للمدن دون أن يحدث العكس إلا ما ندر فتستعيد المدن بهذه الجماعات الوافدة من القرى ما فقد منها من نفوس