ويدخلون في مختلف طبقاتها وتستعيد بهم الأيدي النشيطة والأفكار الثاقبة والقوة على العمل التي هي بحاجة دائمة إليها.
وهكذا تتجدد العائلات في المدن وتحتفظ بحيويتها بمجيء العائلات الجديدة من القرى وبمصاهرة هذه العائلات. ومن يمحص الأنساب في مدن هذا الشرق يرى أن كثيراً من العائلات فيها قدمت من القرى وبعضها لم يمض على قدومها للمدن جيلان أو جيل واحد. وأن أسماء عائلات كثيرة تدل دلالة ظاهرة على أصلها القروي فنجد في دمشق مثلاً آل الحلبوني والصحناوي والقاري والمهايني والنبكي والدوماني والقرواني والصيدناوي والتناوي والقساطلي والرحيباني والشويري وهلم جرا وكل هذه العائلات كما تدل أسماؤها من أصل قروي وهكذا قل عن المدن الأخرى غير دمشق وكثيراً ما تجد أن حياً من أحياء المدينة يسمى باسم سكان إحدى القرى كحارة السخانة في حلب وحماة وحمص ودمشق المأهولة بمهاجري السخنة وتدمر والقريتين وكذا فإن كثيراً من عائلات طائفة السريان القديم في المدن السورية من أصل صدي وبعض هذه العائلات قد اشتهرت بغناها وبوجاهتها. وستظل صدد القرية معقل الطائفة اليعقوبية المنيع في سوريا ومنبعها الدائم.
وعليه فلنشبه المدينة بالبحر والقرى بالينابيع التي تنساب دوماً مياهها نحو البحر لتعوض عليه ما فقده وهي كالينابيع حلوة يتدفق منها الماء النقي ليمنح البحر ما فقده من المياه النقية التي بخرتها حرارة الكدح والمزاحمة ويلطف ما بقي فيه من المياه الكثيفة الملوثة بالأملاح التي جادت بها سكنى المدينة الغنية بماديتها وأذواقها ومغاويها، وهي كالينابيع هادئة تدفق الماء بكل تؤدة وسكون ثم تدفعها للبحر وسط هديره وصخب أمواجه، وهي كالينابيع دائمة تسير نحو البحر في حال اليسر والعسر وفي حال السلم والحرب فهي ينابيع الأرحام الدائمة تدفق مياه الحياة نحو بحر القبر الدائم.
ويمكننا أيضاً أن نضيف للمقابلات الأنفة الذكر المقابلات التالية وهي أنه في القرية يكون الخيال بعيداً وسامياً ويراعى الدين والفضائل على قدر الإمكان فترى الشجاعة والتعبد والكرم والاهتمام بالغير ومساعدتهم متجلية بأوضح مظاهرها. أما في المدينة فالتواكل قليل والضيافة غير معتادة فلا يهتم أحد بغير نفسه وعائلته الخاصة فتضعف أواصر القربى والعصبية النسبية في القرية تعيش مع مواطنين يعدون بالمئات وتتعارف مع كل واحد