شرع فاليري في العمل، ليس كما كان يرجوه منه معلموه إذ كان يحضر ظاهراً دروس الحقوق في جامعة مونبليه وكان في الحقيقة مكباً على دراسة الشعراء الجدد أمثال بويلير وفيرلين ورامبو ومالا وقد طلع فاليري عقب هذه الدراسات بأفكار طريفة ملخصها أن الفن هو الشيء الوحيد الثابت في هذا العالم وإن فلسفة ما وراء الطبيعة نوع من الهذر ولغو الكلام وإن العلوم دائرة ضيقة لا يستطيع الإنسان أن يظهر فيها مواهبه وما خصته به الطبيعة من مزايا عاليةوإن الحياة العملية تدهور وسقوط تؤدي غالباً إلى عيشة قلقة مضطربة.
ظل فاليري على اتصال دائم مع رجال الأدب أمثال بير لويس صاحب آفروديت أو الحب الإغريقي واندره جيد الكاتب العظيم وقد نظم فاليري حينئذ أشعاراً نشرت في إحدى المجلات الفتية فلاقت رواجاً سريعاً وقد حاول فاليري أن يكون بعدها كاتباً محترفاً ولكن هذه المهنة كانت كما يقول فوق طاقته ودون قواه ووسائله إذ كان ينزع مثل غوته شاعر ألمانيا الأكبر أن يجعل لحياته هدفاً يصعب الوصول إليه ولا أدل على مزاج الرجل وما انطبعت عليه نفسيته من هذه المحادثة القصيرة التي جرت بينه وبين اندره جيد إذ قال هذا أثناء الحديث سأقتل نفسي لو منعني أحد عن الكتابة.
أما أنا، أجاب فاليري، سأقتل نفسي لو أرغمني أحد على الكتابة!!
قضى فاليري سنة في الخدمة العسكرية فأعجب بروح النظام السائدة فيها كما أعجب ستاندال من قبل بالقانون المدني وترتيبه المنطقي.
اجتاز فاليري سن الحداثة ليس مثل اندره جيد الذي تحرر عن طريق لذة الحواس ولا مثل بايرون عن طريق الشعر والإلهام أو مثل عامة الناس عن طريق العمل ولكنه تحرر مثل زميله ديكارت عن طريق الفكر وتقوية دعائم الشخصية فقد أقام فاليري في باريس في غرفة كان يسكنها سيد الفلسفة الوضعية أو غوست كونت وهنا في هذه الغرفة الحقيرة صار يسود عدة صفحات تدور معظمها على مواضيع فلسفية بحتة كفكرة الزمان والمكان والأحلام والانتباه ونصيب العلوم من الحقيقة وسير الفكر الإنساني في مدارج التطور والارتقاء.