وجد طرائق غير عادية تمكننا من الوصول إلى نوع من الدقة في التفكير واستطاع بما حذفه من الكلمات المبهمة التي لا تؤدي المعنى بتمامه أن يوجد مفردات عديدة تفي بهذا الغرض بعد أن أعمل قلم التهذيب فيها وحذف كل ما وجد نقصاً في تعريفها.
لقد أصبت بمرض الدقة ونزعت نفسي إلى تفهم الأشياء تفهماً كلياً وغدا كل ما هو سهل في نظري محتقراً ومذموماً فأسأت الظن بالآداب وكل ما كان رقيقاً من الأشعار وهجرت الفلسفة كلها واعتبرتها من الأشياء المحتقرة التي تشمئز نفسي منها.
طريقة الرجل: الدقة
ناتانائيل! سوف لا أعلمك التآلف بل الحب!
بمثل هذه الكلمات يخاطب اندره حيد تلميذه في كتاب طعام الأرض ولو قدر لي اكتب عن طريقة فاليري في الكتابة لما وجدت أحسن من ترديد هذه الجملة:
اركسيماك! سوف لا أعلمك الوضوح في الكتابة بل الدقة.
يجد معظم الناس كتابة فاليري غامضة ولم يكن هذا التذمر إلا ليلاقي استغراباً ودهشة من الشاعر العظيم فكان يجيب بقوله يسوؤني تعذيب عشاق الوضوح والنور إذ لا شيء يجذبني مثل الوضوح في الكتابة وأن ما ينسبونه إليّ من الغموض هو ضعيف بجانب الحقائق التي اكتشفتها دوماً. . . يا صديقي أن لي فكراً لا يقنع بحقيقة الأشياء إلا بعد التحقق منها.
ومن الغريب أننا إذا تدبرنا الكتب التي عرفت بسهولتها وجدنا أنها تحتوي شيئاً من الوضوح الغامض ولم يتردد فاليري في خطابه إلى الأكاديمية من الإشارة إلى الوضوح في كتابة صاحب الزنبقة الحمراء قائلاً:
أحب الناس بسرعة كتابة فرانس لأنهم استطاعوا أن يتذوقوها بدون أدنى مجهود فكري إذ كانت هذه الكتابة تخدعهم بمظهرها الطبيعي الجذاب وإن كانت تخفي تحت فكرة مقصودة واضحة. في كتب فرانس أثر لفن التقاط الأفكار والمسائل الصعبة. وقد لا يستوقف القارئ عند قراءته كتب فرانس سوى هذه الأعجوبة أنه لا يشعر بأدنى مقاومة أثناء القراءة. الوضوح أمنية لذيذة توحي لنا أننا نتثقف بدون عناء وأننا نتذوق الكتب بدون نصب وأننا نفهم بدون شدة وأننا نتمتع أخيراً بمشاهد الرواية دون أن ندفع فلساً واحداً. ما أسعد هؤلاء