الحدس. وكثيراً ما بحث الفلاسفة في مزاج العبقري واستعداده الطبيعي واستدلوا على عبقريته بصفاته الجسدية كحجم الدماغ وشكل بطونه ونسيجه ونسبته إلى الجسد وتأثير الغدد الداخلية وغير ذلك من الظواهر الدالة على صحة البنية وتعلق الأحوال النفسية بها.
أنا لا أنكر أن للمزاج والدم والاستعداد الطبيعي وتركيب الجسد وصحته تأثيراً قوياً في تكوين العبقرية. وربما كنت أميل إلى الاعتقاد أن تأثير الفطرة في الفرد لا يقل عن تأثير الكسب إلا أن هذا الكسب لا يتم إلا تحت تأثير المبادئ العقلية. ومن الصعب أن نضع المبادئ العقلية في موضع الغريزة. والفطرة لا قيمة لها إلا إذا صقلت وحسن استعمالها وهل يكون إنتاج الأرض التي لم تحرث معادلاً لإنتاج الأرض التي عني صاحبها بحرثها وفقاً لطرائق الفن الحديثة. وليس سر النجاح في حسن استعمالها. ولو سمح لي القارئ باستعمال الاصطلاحات المدرسية لقلت أن هذه الاستعدادات الطبيعية هي الشر
الضروري لا الشرط الكافي لوجود العبقرية وهي لا تنحل إلى غرائز عمياء أما العبقرية الحقيقية فلا تنبثق إلا تحت تأثير الثقافة.
وفي الحق أنك إذا استعرضت حياة بعض العبقريين وجدتها مثالاً للدرس المنتظم والعمل الإرادي والجهد الشعوري وأدركت أن الإبداع لا يكون من العدم وأن الغريزة والاستعدادات الطبيعية والإلهام والاتفاق والمصادفة لا تكفي لتعليل ما ينتجونه من بدائع الفن وحقائق العلم. نعم إن المخترع كثيراً ما يكتشف عن الحقيقة بدافع عفوي فلا يدري كيف أشرق عليه النور ويظن نفسه في بحر عميق حتى لقد قال غوته: كتبت آلام فرتر وأنا مستغرق في سبات عميق غير شاعر بما كنت أفعل ولشد ما كان عجبي عظيماً حين قرأت ما كتبتوظاهر القول يدل على أن انبجاس الوحي لم يكن بتأمل وإرادة إلا أنك إذا عرفت العمل الإرادي قد سبق الإشراق العفوي، وإن الحياة اللاشعورية لا تنتج بنفسها شيئاً بل تخمر العناصر التي أودعتها الحياة الشاعرة فيها، وأن هناك تأملاً إرادياً وتفكيراً منتظماً، وصبراً وجهداً مؤلماً، مثال ذلك أن كبلر لم يكتشف إهليلجية الأفلاك إلا بعد أن جرب تسع عشرة فرضية وأن باستور شاهد بنفسه أو بواسطة مساعديه (٥٠٠٠٠) دودة من دود الحرير فدرس أحوالها ودقق فيها قبل أن يكتشف أسباب أمراضها. كل ذلك يقتضي أن يكون العالم حسن الانتباه الإرادي قوي التأمل والإمعان. وقد قيل كلما كان العالم أوسع