معرفة وأحسن ثقافة كانت مشاهدته أكثر ضبطاً وأصح نتيجة.
ولو أن التفكير كان مجرداً عن الثقافة التي يكتسبها الإنسان من بيئته الاجتماعية ولغته وزمانه وما انتقل إليه من طرائق البحث وصناعة الفن لقلنا أن هذا الإبداع إنما حصل بسائق طبيعي مجرد عن الكسب ولكنك إذا رجعت إلى العبقريين وجدتهم يستفيدون من بيئتهم وزمانهم ومصطلحات فنهم. وأكثرهم نبوغاً أقواهم إرادة وأدومهم سعياً وراء الغاية التي أوحى بها القلب وصورها الخيال. وقد فطن نيتشه إلى هذا الجهد الإرادي الذي يجب على الرجل السامي أن يبذله حتى يتغلب على الغريزة فذكر في كتابه (زرادشت) المراتب التي يجب على المعتزل أن يمر بها حتى يصبح إنساناً كاملاً وكلها تدل على تغلب الإرادة على الإلهام العفوي والوحي الباطني. ولعل السبب في احتقار نيتشه لروسو استسلام هذا الأخير سواء أكان في كتاب الاعتراف أم في كتاب (هلويز الجديدة) أم في حياته إلى تقلبات الطبيعة وأهواء النفس ولم يعجب (ستندال) بنابليون لإتباعه غريزته والهامة بل لقوة إرادته وسعيه وانتظامه. ولعل الذين يستسلمون كلامرتين وروسو وجورج ساند لشياطين الوحي يتبعون في سرهم طريقة منتظمة لا تدل عليها حياتهم المشتتة. فكأن وراء الكسل الظاهر عملاً باطنياً منتظماً وراء التشويش سعياً دائماً.
من هذا يتبين لنا أن العبقرية إنما تنسج بآثار البيئة وأحلام الجماعة ومصطلحات الزمان سواء أكان ذلك في العلم أم في الفن فالعرب مثلاً لم يتجردوا عن الثقافة الإسلامية عندما أخذوا بفلسفة اليونان بل اقتبسوا تلك الفلسفة الأجنبية وأنضجوها وألبسوها حلة عربية وسعوا للتوفيق بينها وبين الدين وهذا أبو نواس وأبو الطيب وأبو العلاء هل تجردوا عن ثقافة البيئة التي نشئوا بها. لاشك أن إعجاب المتنبي بأبي تمام أثر في شعره تأثيراً حسناً وقد كان تأثير ابن سينا والفارابي في ثقافة الغزالي عظيماً جداً. ثم هل تجرد فغنر وبيتهوفن عن مصطلحات الموسيقى أم هل أهمل شكسبير وهوغو ما تقتضيه صناعة الشعر من الممارسة. وهل توصل ديكارت وباسكال وليبنز إلى ما وصلوا إليه دون أن يقتبسوا من الثقافة زمانهم. لكل عبقري أستاذ ينحو نحوه ومثال يقلده وهذا التقليد ضروري له إلى أن ينتقل من أفق التقليد إلى أفق الإبداع. على أن هذه الثقافة لا يجوز أن تبقى خارجية سطحية بل يجب لأن تمازج اللحم والدم وتصبح ذاتية. إذ هي مشتركة بين الجميع