وإذا اقتصر الفرد على اكتساب ما ينقله إليه المحيط دون تمثيله كان مثقفاً بالعرض لا بالذات وهذا مخالف لشروط العبقرية لأن العبقرية يجب أن تكون ذاتية فردية وهذه الصفة الذاتية تدل دلالة واضحة على أن المسافة بين العبقرية والغريزة شاسعة جداً لأن الغريزة صفة مشتركة بين جميع أفراد النوع أما العبقرية فهي صفة ممتازة لا يشارك صاحبها فيها أحد فالغريزة والفطرة والمزاج والاستعداد والإلهام كل ذلك ضروري للنبوغ أما العبقرية فلا تنمو إلا بتأثير الثقافة.
لقد حلني على البحث في العبقرية من هذه الوجهة ما وجدته عند بعض كتابنا وعلمائنا من إهمال الثقافة عامة كانت أو خاصة. إذ يظن بعضهم أن الاستسلام للحدس وإطلاق العنان للخيال وحرية الإلهام كل ذلك كافٍ للإبداع ويظنون أن ما جاءوا به إنما هو وحي جديد وإلهام خاص بهم في حين أنه كثيراً ما يكون تكراراً لما قاله غيرهم قبلهم. ولو اطلعوا على ما جاء قبلهم لأعانهم هذا الاطلاع على الإتيان بأشياء جديدة إلا أنهم يستصغرون الذي ينقب في بطون الكتب ويكثر من الاستشهاد وذكر المصادر وقد خفي عنهم أن لكل زمان ثقافة وأن لكل فن صناعة وأن من واجب كل زمان أن يطلع على ثقافة الأزمنة السابقة ويزيد عليها. وقد تجد في العلماء من يجهل آداب ما يجري في العلم والفن في البلاد الأجنبية كل ذلك يدل على نقص في الثقافة. ولعل هذا النقص من أهم الأسباب الداعية إلى تأخر الإبداع في آدابنا وعلومنا، ولكننا لا نزال مغرمين باستعدادنا الطبيعي فندرس بدون طريقة وننتج بدون غاية. ولو استسلم الناس لهداية الطبيعة لكانت حياتهم في الغالب عبارة عن تكرار دائم لأحوال ثابتة ولامتنع التقدم والتطور ولبقي الإنسان حيث كان من ظلمات الغريزة وشبهات المادة.