الحرية هي الفضيلة في معناها القديم - أو هي الموهبة التي تقود الإنسان إلى العقل القوي النافع وفي هذه الفضيلة تكمن السعادة المنشودة فالحرية، إذن، لا تتمثل في الخلق المتردد ولا في الاختيار الفوضوي الذي لا يخضع إلى قياس ولا تلائم مع مكنونات النفس بل هي الكفاءة الخلقية، والمقدرة على إنجاز المهمة التي توحي بها السليقة والفطرة السليمة الخاصة.
أما الخلود، فليس هو قضية زمنية معقدة أو وجوداً دائم الاستمرار، بل صفة من صفات الحياة لا تدخل في نطاق الزمن وقياسه. فليس طول الأيام وكثرتها مقياساً لخلود الإنسان بل الآثار الفكرية التي يبدعها عقله. فالروح تشترك مع الأشياء التي تتحد بها في مصيرها المحتم، والنفس المنغمسة في الأشياء العارضة هي نفس متلاشية. كما أن النفس التي تلابس الأشياء الخالدة خالدة مقدار خلود تلك الأشياء. ولكننا حين نتساءل بعد ذلك عن ماهية الأشياء الخالدة، يجيبنا سبينوزا بأن لا شيء خالد في ديمومته. فتيار التطور يجرف كل شيء أمامه سواء كان جسداً أم فكرة، فرداً أو جماعة. ولكن الأشياء، مع ذلك خالدة خلود الحق وإمكان الذي تشغله حادثة من حادثات التاريخ وقف لها لا يمكن استبداله، والصفة التي يصطبغ بها عمل من الأعمال وإحساس من الإحساسات صفة ثابتة لا تتغير. وليس العقل الإنساني، بنتيجة هذا القول، حيواناً صرفاً لا يشعر بغير الانتقال من حالة راهنة إلى أخرى مقبلة في مراقي التطور، بل هو جهاز تركيبي ذهني، تأملي، يستطيع أن يتطلع إلى السابق واللاحق، وأن يبصر العلاقات المتبادلة بين الأشياء المتعاقبة، ويراها في شكلها الخالد - على حد قول سبينوزا - ورؤية الأشياء في شكلها الخالد هي رؤيتها في حقيقتها التاريخية والخلقية لا كما تبدو في انتقالها السريع إلى حالاتها المتسلسلة، بل كما تظهر بعد أن تنتهي من رحلتها الشاقة. فحين تنتهي حياة الإنسان - مثلاً - تظل حقيقة وجوده فترة في عباب الزمن اللامتناهي، حقيقة لا تزول، ويظل صحيحاً أنه كان ذاتاً متميزة لا تتميز فيها ذوات أخرى مهما كانت عليه تلك الذاتية من الضآلة وتفاهة الشأن. يعكس لنا التاريخ في مزيجه وصفحاته هذه الحقيقة في لون ظاهر لا يتطرق إليه الشحوب ويرى الإنسان في نورها صفة الخلود التي تلازمه رغم حصول الموت ذلك لأن الحياة حين تنتهي حركتها تبقى حقيقتها وتخلد. فحادثة وجود الإنسان هي حادثة دائمة الارتباط