بمجموع الحوادث الأخرى التي لا تتناعى. هذا الضرب من الخلود يشمل جميع الموجدات في صورته السلبية. ولكنه يتمثل في عقل الإنسان بصورته الإيجابية أيضاً لأن العقل بنسبة إدراكه لخلود الحقيقة وتأمله لها، وهو حين يعني بالجزء الخالد من وجوده ينصرف عن العناية بالجزء الفاني. على أن هذا الخلود الذي تصوره سبينوزا هو قياس مثلي فقط. فالرجل الذي يحيا حياة الخلود لا تطول حياته سواء أكانت جسدية أم روحية. بل كل ما في الأمر يعمد في تلك الحالة التأملية إلى إسقاط المقاييس الزمنية من جعبته ويتنكر لها، وبذا يفقد الموت كل تأثير ممكن في نظره. ولا بدعة، بعد ذلك، إن قلنا أن هذه النظرة السامية التي تبدد حجب الوهم حين ينظر الإنسان بها إلى مصلحته تغدو منقذة له بابتعادها عن فكرة الغناء التي تتضمنها صور الزمان والمكان. والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عرف أن الموت حق لا ريب فيه. ومعرفته هذه، قد رفعته فوق فكرة الغناء وأدت به إلى الاشتراك في استبصار الحقيقة الخالدة ثم وقف جانباً يشاهد تمثيل مأساته والعطف على العاصفة الثائرة يملأ جوانحه، ساداً أذنيه عن سماع استغاثة النوتي في المركب الحطيم. مع أن النوتي يمثل (ذاتيته) الخاصة. الحقيقة قاسية، ولكنها جذابة يهيم الكثيرون في حبها، وهي تعمل دائماً على تحرير أولئك المحبين.
إن الجزء المهم من فلسفة سبينوزا في الدين والسياسة والأخلاق يستعد من (الفيزياء) أكثر مما يستمد من الغيبيات. فالفيزياء - نظر الأفلاطوني - هي علم غايته درس العلاقات التي تربط بين الظواهر فقط، أما المثل الإنسانية العليا عقلية كانت أم خلقية فهي مفتاح لعالم غبي غير طبيعي. ولكن سبينوزا يرى في المثل والمدركات الإنسانية صفة إنسانية لا تنطبق على غير علة الأصغر. أما التاريخ الطبيعي فهو - في نظره - الوسيلة الوحيدة لاكتشاف كل أمر جوهري وخالد وإلهي في كشف الطبيعة. ومما لا شك فيه أن إيضاح هذه الحقيقة بصورة تامة أمر متعذر لأن التاريخ الطبيعي لا يخرج في دوره عن نطاق النظرة الإنسانية مبتدئاً من النقطة العالية المشرفة التي يقف فيها الملاحظ المستقرئ. ولكن هذه النظرة الذاتية التي يبتدئ منها الدرس العلمي ليست عاملاً مهماً في ذاتها لأن غاية العلم ملاحظة كل أمر يقيني واقي، ولو كان هذا الأمر مزاجاً أو وهماً. وبهذه الطريقة نتمكن من لمس جانب من الوجود اللا نهائي. إدراك ناحية من الكون الحقيقي. فمهمة العالم الطبيعي