إذن، إن يعين الموضع الذي يحتل حادث من الحوادث في كتف الطبيعة وأن يحدد علاقته بالحوادث التي تحيق به فتصبح موضع درس يقيني أو فرض ضروري. هذه الطريقة هي (كلمة السر) التي فتحت مغاليق الحقيقة الكثيرة في وجوه الباحثين فولجوا إلى حديقتها الكبرى يتذوقون أطايبها ويتنشقون أزاهيرها العطرة ثم خرجوا مزودين منها بنماذج صحيحة التركيب يعرضونها على سمع الناس وأبصارهم وأذواقهم وسائر حواسهم ليحملوهم على الإيمان بالأساليب الموضوعية غير مشوبة بعاطفة أو نزعة ذاتية. يعتقد سبينوزا أن هنالك منطقتين يتصل فيهما العلم بالطبيعة، وهو يصفهما وصفاً جزئياً حقيقياً، وهاتان المنطقتان هما (الفيزياء) الرياضية والشعور الذاتي. وقد استمد فيلسوفنا صورتي (الفكر والامتداد) من فلسفة ديكارت وجعلهما حدين للطبيعة في إمكان الإنسان أن يلمس بعض أجزائهما فعلم سبينوزا يتلخص في وصف هذين الحدين ودراسة العلاقات التي تربطهما ببعضهما وتصور العلاقة التي تصلهما بالأشياء الأخرى. لا جرم أن تفاصيل هذا التأمل العلمي هل على جانب عظيم من السمو والاعتبار ولكنها عتيقة لا تقبلها الروح العصرية لأن منطقة (الفيزياء) الرياضية هي في نظر الناقد الفلسفي جد بعيدة عن منطقة الشعور الذاتي. والهم الجريء الذي وقر في ذهن سبينوزا أو حاول يشيد دعامته نظاماً وتناسقاً، هذا الوهم الذي يجد الوعي حيث يوجد الامتداد متناقض لا سبيل له إلى الذهن العلمي. غير أن الإيمان الذي يكمن في نفس فيلسوفنا والبصيرة الثاقبة التي يتحلى بها قد أديا به إلى اكتشاف فكرة عظيمة في قيمتها. وقوام هذه الفكرة تصور اللا نهاية المطلقة التي تشمل جميع الأجسام والمظاهر، متدرجة في تطور مستمر، سائرة في مدى لا يتناهى، وكذلك الإحساسات والمدركات التي ترافق ذلك التطور والتي تقرر إلفة العقل ضرورة وجودها، يضاف إلى ذلك مشاعر باطنية وأشياء أخرى لا يلمسها الفكر لبعدها عن نطاق التجربة ولكنها ممكنة الحدوث يشعر بها القلب وهي منسجمة من مجموعها وفي حيز طبيعتها الخاصة. جماع هذه اللا متناهيات بمختلف صفاتها وألوانها، منظومة في سلك واحد تؤلف الكون اللا نهائي المطلق. وما الإنسان في الكون بسائر أعماله وآثاره سوى حادث في حادث وجزء من جزء.
ليس لدينا، في الواقع، برهان قاطع يحملنا على الاعتقاد باتساع الكون للدرجة التي تخيلها