واللطف لا يعرف القراءة فهو أحد الأميين الذين تقول الإحصاءات أنهم يبلغون ٧ - ٨ في المائة بين أفراد الأمة الطليانية. .
أنه أمي. ولم أكن في تلك اللحظة أذكر أنني حادثت من قبل أحداُ من الأميين الذين يكاد ينقرض أثرهم في أوروبا.
إن (جوفاني) هذا كان أول أوروبي صادفته لا يعرف القراءة، فلا عجب إذاً أنا نظرت إليه في تلك اللحظة بكثير من الاستغراب ولا غرابة إذا أنا لم أعتبره حينئذ صديقاً ورفيقاُ كما في السابق بل أعجوبة.
على أنني بطبيعة الحال قرأت له الكتاب الذي كان مرسلاُ إليه من خياطة اسمها (مارية) أو (كارولينا) ولا يخرج مضمونه عما اعتادت الفتيات أن تكتبه إلى الفتيان في جميع البلدان وبكل اللغات.
كان (جوفاني) أثناء القراءة لا يحول أنظاره عن فمي وكنت ألاحظ عليه آثار الانتباه الشديد ليلتقط كل كلمة، فكانت عضلات جبهته تتجمد وملامح وجهه جميعها تتوتر من الجهد الذي يبذله لسماع الرسالة وحفظ كلماتها بالتمام، وقد قرأت له الرسالة مرتين قراءة بطيئة، واضحة لئلا تفلت منه أية جملة أو كلمة فأخذ يظهر عليه الرضى والسرور المتزايد وبدأت عيناه تلمعان وانفرج فمه كأنه وردة تتفتح.
ورأينا من بعيد أحد ضباط السفينة قادماُ فأسرع (جوفاني) واختفى لمتابعة عمله.
هذا هو الحادث بتمامه. إنما لا يمكن تقدير أهميته إلا بعد سرد ما أعقبه في نفسي من التصورات ومعرفة ما جال في خاطري من الأفكار تحت تأثيره المباشر.
فإنني لما بقيت وحدي اتكأت على مقعد
طويل وسرحت نظري في سماء الليل الهادئ الرقيق، ولكن كنت أشعر أن هذا التصادف الغريب قد آثار نفسي في أعماقها وبعث فيها الشيء الكثير من القلق. أنها المرة الأولى التي التقيت فيها برجل أمي، هو فوق ذلك من الأوربيين تعرفت إليه قبل أيام فألفيته عاقلاً، ذكياً وتحدثت إليه كصديق ورفيق والآن أخذ أمر هذا الرجل يشغل بالي، لا بل يزعجني ويدفعني إلى التفكير في حل هذا اللغز ومعرفة كيف يتمثل العالم في مثل هذا الدماغ الذي لم تنطبع فيه آثار القراءة