لقد حاولت أن أتصور حالة من لا يستطيع القراءة وجربت النفوذ إلى نفس هذا الرجل، إنه يتناول صحيفة فلا يفهمها، ويمسك كتاباً فيحس به في يده كشيء أخف من الحطب أو الحديد، شيء مستطيل ملون لا فائدة له فيعود ويضعه مكانه دون أن يعرف ماذا يصنع به. . يقف أمام مكتبة فيرى هذه الأشياء الجميلة الصفراء والخضراء والحمراء والبيضاء بجلودها المذهبة ولا فرق عنده بينها وبين زجاجات العطور الملونة التي لا سبيل إلى استنشاق عبيرها من وراء البلور، أنه لا يستطيع أن يتصور البهجة العظيمة التي يمكن أن تنفجر فجأة من سطر واحد في هذه الكتب كما ينبثق القمر الفضي من السحب المظلمة الميتة، هذا المسكين إنه لا يعرف الرعشة التي كثيراً ما تهزنا إذا قرأنا وصف حادثة من حياة شخص يتخيله الكاتب فلا تملك أنفسنا من أن نعيش معه ونشاركه في مقدراته، فهو يعيش منفرداً كأن جداراً يحيط به لأنه لا يعرف شيئاً من الكتب ويقضي الحياة في ظلمة وجمود، وقد سألت نفسي كيف يمكن احتمال مثل هذه الحياة دون أن نختنق وكيف نستطيع البقاء دون أية صلة بالمجموع؟ كيف يمكن الصبر على عدم معرفة شيء سوى ما نبصره ونسمعه بالتصادف وكيف يمكننا التنفس دون استنشاق هواء العالم الذي يتدفق من الكتب؟
لقد حاولت بجهد متزيد أن أتصور حالة عدم معرفة القراءة وأتخيل موقف من لا صلة له بعلم الفكر وسعيت كثيراً لأتمثل في ذهني حياة مثل هذا الرجل كما يسعى العلماء بتنقيب آثار العصور الحجرية القديمة أن يتمثلوا معيشة الإنسان الابتدائي ولكنني لم استطع الرجوع بنفسي إلى ذهنية رجل أوروبي لم يقرأ كتاباً أبداً وتيقنت استحالة ذلك وإنني في هذه الحالة لا فرق بيني وبين أصم يحاول تصور الأنغام الموسيقية. . .
على أنني بعد أن عجزت عن فهم ذهنية الرجل الأمي رأيت أن أحاول تصور حياتي الذاتية منفصلة عن الكتب، فبدأت أسعى للتجرد ساعة عن كل ما اقتبسته من الكتب ولكن منذ أول الأمر تيقنت من استحالة ذلك لأنني رأيت أن ما أسميه ذاتي وما يتكون منه مفهوم (الأنا) سوف يذوب ويتحلل ولا يبقى منه شيء أبداً أذا حاولت تجريده من جميع ما اقتبسته عن الكتب من علم وتجربة وقوة وعاطفة ومن معرفة بالعالم وشعور بالذات أي شيء حاولت أن أفكر فيه كنت أرى الذكريات والتجارب التي استفدتها من الكتب ترتبط به وكل كلمة تخطر لي كانت تثير بالتداعي مالا يحصى من آثار القراءة والتعليم، إذا فكرت مثلاً