أنني أسافر الآن إلى الجزائر وتونس فإن ألافاً من الأفكار تتداعى بسرعة البرق وتتبلور حول هاتين الكلمتين فأتذكر قرطاجنة وعبادة (بعل) وسالامبو والمنظرة التي يصف فيها المؤرخ ليفيوس تلاقي سيبيون مع هانيبال في (زاما) ومرت أمام مخيلتي الصورة البديعة التي رسمها (دولاقروا) ووصف رائع لتلك البلاد في كتب (فلوبير).
وغير ذلك آلاف التفرعات التي قامت حية في ذاكرتي ومخيلتي بمجرد تلفظ كلمتي تونس والجزائر - لقد تذكرت البلدتين منذ آلاف السنين والحروب التي قامت فيها وتزاحمت علي جميع المعلومات التي كنت قرأتها وتعلمتها منذ أيام الطفولة.
حينئذ عرفت أن من يقتبس ما في الكتب من تجارب غيره ويتعلم ما تشرحه من أحوال جميع البلدان والعصور والأجيال هو وحده الذي يحصل على نعمة الإحاطة بالعالم في فكره ويمتاز بهذه القدرة النادرة، العجيبة التي تجعله يشرف على الكون من جميع الجهات وقد شعرت بقشعريرة عندما تصورت عكس هذه الحال إذ يضيق العالم وتنحصر حدوده في نظر من لا علاقة له بالكتب.
تذكرت مواقف حاسمة من حياتي كان لما قرأته في الكتب من الآراء أكبر الأثر فيها وخطر لي كثير من الساعات الماضية التي انقطعت فيها إلى قراءة بعض الشعراء القدماء فكانت هذه الساعات أثمن وأعز لدي من بعض الاجتماعات بالأصدقاء والنساء، وكلما أمعنت في التفكير ازداد يقيني بأن عالمنا الفكري يتألف من ملايين من الذرات التي تبقى من انطباعاتنا المتوالية وأن عدداً صغيراً جداً من هذه الذرات يرجع وحده إلى تجاربنا ومشاهداتنا الخاصة بينما جميع القسم الأخر وهو المجموع الذي عليه العمدة إنما جاءنا من الكتب، مما نقرأه ونتعلمه.
وكل من انكشفت له هذه الحقيقة وعرف قيمة الكتابة والقراءة وأهمية التفاهم الفكري بمعناها الواسع، لابد أن يبتسم ساخراً من الخنوع والذل الذي استولى اليوم على الكثيرين من أصحاب القلم والفكر. فهم يبثون الشكوى من أن عصر الكتب قد انقضى وأن السيطرة الآن للصنعة والاختراعات الفنية ويقولون إن الغراموفون والسينما الناطق والراديو قد أخذت تزاحم الكتاب في نقل الكلام والأفكار بصورة أدق وأسهل ولذلك ربما لا يمضي زمن حتى يفقد الكتاب أهميته في الحضارة ويصبح من الآثار التاريخية.