شاب. جوهر الشباب حماس ويقين، لا تعقل بارد، كما في المعري، وشك سقيم. يحب الشاب أن يثبت، ولو راح ينفي اليوم ما أثبته بالأمس، لأن الإثبات تعبير عن القوة والشك صورة للضعف والارتخاء. صرت أطرب بقول جيد:
تمر بي أيام يكفيني أن أردد فيها أن اثنين مع اثنين مع اثنين لا تزال تساوي أربعة، حتى يمتلئ قلبي غبطة أو أن أرى قبضة يدي على المنضدة. .
أو عجيب أن يلقى صوت جيد ذلك الصدى في قلوب الشباب وهو أول كاتب خاطبهم بتلك اللهجة، وأتاهم بدين جديد، دين الحماس، بعد أن انقضى القرن كله (التاسع عشر) بين نواح الروماتيزم وبردة الكتابات العلمية والروايات الواقعية؟
أنها موسيقى جديدة:
ناتانائيل! لأعلمنك الحماس حياة مضطربة أجدر بك من حياة السكينة والراحة. أنا لا أشتهي راحة قبل راحة الموت، وأخاف من كل رغبة لم أروها، وكل قوة لم أجردها في حياتي أن تعذبني بعد الممات.
يخطئ كل من يرى في هذا القول للانغماس في اللذات، بل إنما هي دعوة للانغماس في الحياة بكل ما فيها، هي عبادة متمادية للحياة وتقديس لكل ومضة من ومضاتها:
ناتانائيل! سأحدثك عن اللحظات. أن أقصر لحظة في الحياة أقوى من الموت. ألا تعلم أن اللحظة لم تكن لتلمع ذلك اللمعان لو لم يحطها إطار الموت القاتم؟ آه لو تعلم أي جمال يخلعه قرب الموت على اللحظة من الحياة. . . .
فأي فرق بين هذه النظرة ونظرة المعري الذي لا يهنأ عيشه ساعة لعلمه أن الموت غريم يلاحقه!
وجيد رجل الحاضر، تشغله اللحظة الحاضرة، لا لينتهبها انتهاب إلا بيقوري المستخف بكل شيء سوى اللذة، بل لأنه يرى فيها الأبدية، لأنه يستجمع فيها كل إحساسه وفكره، وينسى فيها الماضي وينسى المستقبل، فيحقق بذلك أجد وأقوى حياة ممكنة لإنسان.
كيف توصل جيد إلى فلسفته وفنه؟ من حياته. لا اعتقد أن هناك كاتباً مثلاً اتفقت حياته الأبدية مع حياته الخاصة هذا الاتفاق التام النادر. فكل كتاب من كتبه يدل على مرحلة جديدة من مراحل حياته. واحسب أنه أصبح ذلك الكاتب الكبير لأنه نسي أنه كاتب والتفت