إلى حياته كل الالتفات. نشأ جيد في بيت بروتستانتي شديد التمسك بالسنن الدينية والتقاليد الاجتماعية. وارتوت طفولته من منهلين: الكتاب المقدس وألف ليلة وليلة، فأنمى فيه الأول شعوره الديني وخوفه من الخطيئة خوفاً مرضياً، وفتح الثاني لخياله أبواباً على عالم العجائب واللذاذات. شاءت الطبيعة أن يكون شديد الشهوة الجسمية، فقضى من أجل ذلك حداثته غي جحيم من الحيرة والتردد بين مطالب جسمه وإيمان قلبه. كل ذلك نتيجة الهوة السحيقة التي حفرتها المسيحية بين الروح والجسد، والاحتقار السقيم الذي رمت به الجسد، فكان جيد في العشرين من عمره شديد الإيمان والشهوة معاً، وكان يتمزق تمزقاً من صعوبة موقفه. على أن اللذة التي سيجنيها عندما يتحرر من قيود الدين ويصغي لمطالب جسمه العادلة، لم تكن لترتدي تلك البرود الخلابة لولا تمسكه القديم بالدين وخوفه من الخطيئة. يقول أناتول فرانس إن المسيحية خدمت الحب أجل خدمة إذ جعلت منه خطيئة! ونستطيع القول هنا أن المسيحية خدمت أندره جيد بصورة لأنها كشفت لعينيه آفاقاً للذة ولجمال لم يعرفها قبله إنسان.
إن الأرض التي تلقت عبادة جيد وحنت على غرامه هي أرض الجزائر، الشمس والصحراء. هناك بين عرس الطبيعة في الربيع، بين زهو النبات وذوبان النور صرخ جيد: ناتانائيل! لن أؤمن بالخطيئة بعد الآن! كلا، ليست الأرض ملعونة ولا جسم الإنسان حقيراً. . .
وفي نفس الوقت الذي اكتشف جيد فيه اللذة وجمال الجسم الإنساني، اكتشف الساحر الذي سيكون له أكبر التأثير في حياته وفكره. نيتشه.
فاتفقت نظرة هذين العبقريين في حب الأرض، ليس حباً شعرياً فحسب، بل حباً دينياً وعبادة صوفية. هدم نيتشه السماء وقتل سكانها، ورفع دين الأرض الجديد القائم على جمال الجسم وقوته، ونشاط الفكر وانطلاقه، وجعل غاية كبرى لهذا الدين: الفرح. ولم يكن جيد ليطلب أكثر من ذلك عش الخطر! تلك هي صيحة نيتشه، فكان لها سميعاً. وأي خطر للكاتب أكبر من خطر الفكر؟ هكذا وقف جيد في كل حياته على قمم الهاوية، وأطلق جناحيه مع رياح عاصفة. ليخضع غيره أمام سلطان الأخلاق وليحجموا عن المضي إلى نهاية الطريق التي يقودهم إليها الفكر، أما هو فلن يعيقه في سيره نحو الحقيقة عائق. وقبل