معرفة الحقيقة العامة يريد أن يعرف حقيقة نفسه. من هو؟ على أي شيء هو قادر؟ إنه قلق. كان جيد إذا جلس مع صديق له يقترب منه ملهوفاً ويسأله بصوت خافت:
هل أنت قلق؟ وفي رنة صوته ما يفضح عذابات نفسه الحيرى.
- ماذا رحت تنشد في البلاد النائية
- لاشيء. . . . نفسي.
ويقصد جيد من كلمة نفسي الجوهر الأساسي المختص بكل فرد، المعدوم عند أي فرد سواه. فبدلاً من أن يصل إلى هذه المعرفة عن طريق العلم، يعمد إلى ما يسميه أي هدم كل القشور التي أنبتها حول شخصيته الأولى العلم والتربية. فتخطر له فكرة السفر، وفي أسفاره الطويلة المتنوعة يجرب، بابتعاده عن منشأ تربيته، أن ينسى هذه التربية، فيهمل الدرس ويفتح حواسه لتأثيرات المشاهد الجديدة التي توقظ فيه طبيعته الأولى شيئاً فشيئاً.
ناتانائيل! فرّ مما يشبهك. فمتى أخذ المحيط الذي تعيش فيه شبهك أو أنت أخذت شبهه، أهجره لأنه لم يبق لك منه جدوى. وليس أضر لك من عائلتك وغرفتك وماضيك!.
ثم يقول في مكان آخر:
ليس يكفني أن أقرأ أن رمال الساحل ناعمة ندية، بل أريد أن تحس ذلك قدماي العاريتان. ناتانائيل! متى نحرق جميع الكتب؟
بعد تلك الثورة النفسية غدا جيد وكأنه ولد في الحياة ولادة جديدة، فكل ما فيها يبهجه ويستثير دهشته. حتى الأعمال اليومية العادية التي يقوم بها سائر الناس بصورة آلية، أصبح ينتبه لجدتها ويقطف لذتها: أتساقطت بعض قطرات مطر على جلده؟ إن كل كيانه يرتعش لها. أم أكل ثمرة شهية؟ أنها مداعبة طويلة بين لسانه وبين تلك الثمرة. هو لا يريد أن يحيا إلا بالحب، الحب يدعوه إلى العمل، لا الواجب. وما هو ممن يباهون بالمشقة التي يجدونها في العمل، لأن المشقة لا تتفق مع الحب.
يسعى جيد ليصل إلى ما هو فردي فيه ولكنه ما يقصد بالفردية؟ أن يهتم الفرد بما يفرقه عن غيره، فينمي هذا الفرق ويستغله. فالإنسانية الكاملة في نظره هي التي يتخصص فيها كل فرد ويقوم بما لا يقدر أن يقوم به سواه. يعتمد جيد على الفرد ويكاد يهمل المجتمع. يريد أن يحرر الشخصيات القادرة على التحرر والتي لا تحتاج إلا لمرشد يسدد خطاها