ومن حسن الحظ إننا معاشر العرب لسنا دائماً في مجازنا على هذه الشدة وهذا البطش فقد لطفنا الأخلاقبالتدميث كما قومناها بالتثقيف واستعرنا كلمة (التدميث) هذه من معنى بسيط جداً أيضاً قد اختبره كل من افترش الأرض في البيداء والتحف السماء. فالتدميث كلمة مشتقة في الأصل من المكان الدمث إي الهين اللين المفروش بالرمل الطري، قال صاحب المثل (دمث لنفسك قبل النوم مضطجعاً) يعني إزالة الحجارة الناتئة والأشواك الواخزة والحصى المبعثرة من مضجعك في الكهف أو في الصحراء لتنام نوماً هانئاً مطمئناً على الرمل الوثير وكذلك أزل الخشونة البارزة والفظاظة الموحشة والعيوب الشائنة من ابنك بتدميث أخلاقه ليصير رجلاً وليرتاح إليه الناس، والفراش الوثير الذي يدعو إلى الارتياح هو دماثة النفوس أكثر مما هو دماثة الأمكنة وإن كنا لا ننكر أن الناس شعروا بوعورة المضاجع قبل أن يشعروا بوعورة الأخلاق.
وقلنا في لغتنا أيضاً بتهذيب الأخلاق وهو من باب المجاز على طريقة الفلاحة التي سار عليها الإفرنج لأن التهذيب في كتب اللغة هو إصلاح الشجر ولاسيما النخل وقطعه وتنقيته من الليف ليعطي ثمراً أكثر، والنفس التي تهذب فتقطع منها الأغصان اليابسة وتزال عنها الألياف تكون صالحة للاستثمار في حديقة المجتمع
ولا يتعذر على اللغوي أن يستخرج مثل هذه المعاني الاستثمارية من كلمتي التربية للتنمية والتحضير للإقامة على الماء الدائم فيكون الرجل المربى هو الرجل النامي كالدوحة الباسقة يستظل بظلها الناس والرجل الحضري هو الذي أقام على الماء صيفاً وشتاءً فشرب منه وسقى به حتى أخضل ربعه وامتلأ ضرعه، والماء أصل الحياة ولا ثقافة يعتد بها حيث لا حضارة يعاش تحت سقفها.
وفي صيف سنة ١٩٢٦ نزلت على قبيلة الخرشان في البادية البيداء فسألت نفراً من أبنائها في جملة ما سألتهم ما قولكم في البداوة والحضارة فقالوا من أمثالنا البدو في شقى الدنيا والفلاح حمار الدنيا والحضري ابن الدنيا وفي ظني أن الحضري ما صار ابن الدنيا إلا لأن الحضارة جهزته بالثقافة فاستثمر الأرض وعرف كيف يشق طريقه إلى بطنها فينمو من عناصرها ويرضع من خيراتها.