ومما هو حري بالتدوين أن الألمان هم أكثر الغربيين ميلاً إلى ربط الثقافة باستثمار خيرات الأرض حتى كادت كلمة وهي الثقافة في لغتهم تنطبق عندهم على أصل الفعل الذي اشتقت منه وهو فلاحة الأرض بأ، سع المعاني. وللبحاثة (بارت) نظريات سبع مشهورة لتعليل تاريخ البشر على ظهر الأرض منها الثقافة بهذا المعنى الاستثماري يعني أن الوسائط التي تتسلط بها الأمم على الطبيعة لإدارتها واستدرار خيراتها هي سر النشوء في مجتمعها وهي ثقافتها، ونحا (ماركس) رسول الاشتراكية هذا النحو أيضاً فقال أن العالم المؤثر في النشوء الاجتماعي هو القوى المادية المنتجة يعني أن ينابيع الثروة والآلات التي يستخدمها الإنسان والأجهزة التي يستعين بها كل ذلك يكسب الناس شكل الحياة الاجتماعية التي يتمتعون بها. فتكون الأفكار المنتشرة بينهم نتيجة ما هم عليه من الطرائق الإنتاجية التي توصلوا إليها، فإذا كانت هذه الطرائق راقية دقيقة التركيب وكثيرة المحصول فالحياة الاجتماعية راقية على نسبتها والعكس بالعكس. فلا عجب أن تكون البلاد الصناعية أرقى من البلاد الزراعية وهذه رقى من بلاد المراعي. وقصارى القول أن (ماركس) يقول أن وسائل الإنتاج في المجتمع وما يبنى عليها من العلاقات بين الناس تؤلف النظام الاقتصادي في الهيئة الاجتماعية، وهذا النظام هو العالم الأساسي في تكوين النشوء العقلي في الشعوب.
وقسم أحد كبار العلماء التاريخ إلى عصر ثلاثة (الأول) عصر فن البناء وصب القلزّ وقطع الحجارة. (الثاني) عصر المخترعات الثلاثة الإبرة المغنطيسية وهي (البوصلة) والبارود والطبع. (الثالث) عصر الآلات البخارية، فكل عصر من هذه الأعصر هو ثقافة بحد ذاتها، ونحن وإن كنا أبعد الناس عن إنكار الروابط المتينة بين الثقافة وطريقة استثمار الأرض إلا أننا نرى أن هنالك بواعث أخرى غير البواعث المادية للمظاهر الاجتماعية المعنوية، ولا تزال الثقافة في نظرنا صقلاً برانياً جوانياً يصقل به الرجل الخام في معامل التربية العقلية والروحية فيصير إنساناً، وتظهر الثقافة بأجلى مظاهرها بالمقارنة بين الأجلاف الخشنين والمهذبين الناعمين.
يعرف الجلف بهجر القول والحركات الثقيلة والتصورات المبتذلة ويعرف المثقف بالألفاظ المنتقاة والسيرة المنظمة والأفكار المشذبة.