تعاشر المثقف فلا تمل حديثه وتتمنى لو يكتب لكما العيش معاً ردحاً من الزمن وتصادف الجلف في حافلة أو في سيارة فتتمنى أن تنتهي السفرة ولو بصدمة أو انخراق عجلة لتخلص من سماع الحديث ورؤية الحركات والسكنات.
ومن أدعى دواعي الأسف أن ليس كل من تروض بالعقليات والأبيات صار مثقفاً فقد رأينا أناساً تخرجوا في أرقى الكليات الجامعة ومع ذلك فالتربية الأولى والمعاشرة الأولى والميراث المتصل بالآباء والجود بقيت آثارها متغلبة فلم يفد فيها لا صقل البكلوريا ولا طلاء معلم علوم. ولا شك أن القابلية الطرية شرط جوهري لقبول الثقافة، ومن حسن حظ البشر أن هذه القابلية منتشرة في جميع الأوساط ولولا ذلك ما كانت هنالك فائدة كبيرة ترتجي من معاهد التهذيب أو مؤسسات التربية والتعليم.
ولا يفوتني بع ما أظهرت ما للثقافة من المقام الاجتماعي وما أشرت إليه من الروابط المتينة بينها وبين النظم المادية في الجمعية البشرية أن أقول أننا إذا أردنا أن تكون لنا ثقافة قيمة وأن نقوم بنصيبنا في خدمة الحضارة فلا بد لنا من العناية التامة بشؤوننا الاقتصادية ومؤسساتنا الصناعية والزراعية، ولا تقل تلك المعامل التي أنشئت في البلاد حديثا شأنا في رفع المستوى الأدبي عن معاهد العلم والتربية لأن هنالك شبه إجماع بين أهل البحث على أن المعيشة الفردية البسيطة المنعزلة التي تغنى بها أبو العلاء المعري وأمرسون وتولستوي وفاجنر وأمثالهم لا يجوز تطبيقها على المجتمع كاملاً وأن الفلسفة التي صبت إليها نفوسهم وخلاصتها العيش البسيط والفكر السديد هي فلسفة لذيذة وحكمة بالغة ولكنها تليق بالنبغاء الممتازين لا بالدهماء من الناس ولو قدر لهؤلاء الزهاد كما قال أحد العلماء أن يستميلا العالم إلى الاحتذاء بهم وأن يستغووه ببساطتهم في المأكل والمشرب والملبس مع إغفال الأعمال الاقتصادية الناجزة لأصبح تهذيب الجماعة بسيطاً مثل حواطاتهم الخالية الخاوية ببيوت مؤونتهم - ذلك لأن الأفراد إذا قضوا حياتهم في بيئة اقتصادية بسيطة فإن النشاط العقلي والروحي والبدني فيهم يكاد يصبح مستحيلاً. ومن كانت معدهم جائعة فعقولهم مصروفة بحذافيرها إلى الحصول على الطعام، ولن يكون فيها مجال متسع لمقومات الثقافة من فن وعلم ومقاييس في الأخلاق راقية.