قضى بروست بضع سنين في يأس قتال من الصمت الذي أحاط كتبه عندما توصل أخيراً إلى نشرها. فهو كان يفضل لو يلقى من ينتقده وينهال عليه بالذم والشتم على أن يبقى الناس في ذلك الوجوم، ويتجاهلوا وجود كتاباته كأنه لم يأت بفن حقيق بالذكر. ولكن القدر شاء له أن لا يموت قبل أن يستمتع بقسط من الظفر الذي يستحقه، وأن يطمئن على مصير فنه. فقد توصل سنة ١٩١٩، بمساعي بعض أفراد فهموه، لنيل جائزة غونكور، فمدت شهرته جناحيها على أوروبا بسرعة البرق. ولكنه لئن سره أن يرى بعض المفكرين قد فهموه وقدروه، فلقد تألم كثيراً من مرأى تلك الجماهير التي غدت تصفق له اليوم بدون أن تقرأه، مثلما كانت تتجاهله بالأمس، وهي في الحالتين تسير مستعبدة للتقليد والجمود!
إذا لقي بروست في فرنسا من المقاومة أشكالاً وألواناً، فلا احسب حظه يكون أوفر في البلاد العربية، بل أني أتوقع له فيها مقاومة أشد. لأن الأصنام التي انتصبت أمامه ومنعت عنه معبد الأدب حيناً، هي نفس الأصنام التي تقف في بلادنا حائلاً دون كل تجديد: عادات الفكر، وطرق الإنشاء. توسط صديق لبر وست عند أحد الناشرين من أجل طبع كتبه، فأجابه الناشر: لابد أن يكون الله ضرب على عقلي غشاوة فلا أفهم كيف يخصص كاتب ثلاثين صفحة يصف لنا فيها تقلبه في فراشه قبل أن يوافيه النوم! إن هذه الصفحات الثلاثين من أجمل ما قرأت من حيث بلاغة الوصف ودقته، ولكن ذنبها أنها لم تكتب بالأسلوب السهل الواضح الذي تعوده القراء واختصت به اللغة الفرنسية، بل هي معقدة لكون الموضوع معقداً، ولأن بروست ضحى السهولة والوضوح في سبيل الإخلاص والصدق في التعبير لأن السهولة والوضوح لا يتفقان دائماً مع التفكير الجديد والصور الجديدة فوصف الحالة المتوسطة بين النوم واليقظة، بما فيها من تمازج عويص غريب بين الحقائق والأوهام، ثم الانتقال السريع من عالم النوم إلى عالم اليقظة، وكيف يقفز المرء في مدة ثانية أو ثانيتين من فوق أجيال وعوالم عديدة مجهولة ليعود شيئاً فشيئاً إلى رابطته بالعالم الحقيقي، ويسترجع مركزه من هذا العالم في المكان والزمان، كل هذا يضطر الكاتب إلى تناسي قواعد البيان ليؤدي رسالة الفكر الصحيح.
قضى بروست حياته في الأوجاع، وظهرت فيه أمراض عصبية قاسية وهو لا يزال ابن