تسع سنين، فكان يعيش من جرائها عيشة غريبة محجوبة، يجعل جدران غرفته من الفلين لأن أقل صوت يزعجه، وإذا سافر ونزل في فندق، يستأجر، علاوة على غرفته الخاصة، الغرف الأربع المحيطة بها من كل جهاتها حتى لا يسكنها أحد يقلقه بضجيجه! لا يستطيع احتمال النور ولا رائحة العطور. يسد النوافذ بسجوف كثيفة، ويهجر غرفته ليعرضها ثلاثة أيام متوالية للهواء إذا زاره فيها صديق في جيبه منديلاً معطراً. إن هذه الحساسية الدقيقة الشديدة أثرت في أدبه، وخلقت خاصة من أهم خواصه هي: إحياء الماضي بالإحساس الحاضر. كان بروست قد نسي أكثر ماضي طفولته وحداثته، ولم يحفظ منهما سوى خيالات مبهمة، ولطخٍ من النور مبعثرة على ظلام وسيع، فإذا به يذكر هذا الماضي بصورة قوية حية كأنه يعيش فيه للمرة الأولى، وكل ذلك لأنه أكل قطعة من الحلوى بعد أن أغمسها في كأس من الشاي، فأعاد إليه طعمها تاريخ سنين طويلة، ملأى بالحوادث طاجة بالإحساسات، لأنها ذكرته بنفس الحلوى المغموسة بالشاي التي كان يأكلها صباح كل أحد عند عمته في صغره.
إن هذه النقطة فتح جديد في الفلسفة والأدب لأنها تبتكر طريق جديدة في التذكر بواسطة الحواس. فتذكر الماضي بواسطة العقل جامد ميت لا يوحي لنا شيئاً ولا يهز نفوسنا لأننا، كما يقول باسكال في الموت، نعلمه ولا نؤمن به،
نشعر أنه غريب عنا ومنفصل عن شخصنا، كأنه عضو ميت في جسمنا لا نستطيع بتره ولا إحياءه! ولكنه يكفينا أن نسمع أنغاماً شاردة، أو يهفو نحونا عبير ضائع أو نذوق طعماً أو نلمس شيئاً، حتى نشعر بكل كياننا يرتجف، كأن برقاً اخترق داخلنا فأضاء فينا قسماً من حياتنا التي كنا حسبناها قد فقدت منا إلى الأبد، فإذا بها تعود إلينا بدمها وحرارتها، بأدق تفاصيلها.
دخل بروست حياة الأدب وهو مسلح بقوتين بلغتا عنده أقصى حدودهما: الإحساس والذكاء. وقد رأينا إلى أي ابتكار قاده إحساسه العجيب. أما ذكاؤه فأوصله إلى عمق في التحليل لم يستهدف له كاتب قبله. مثلما غاص في بحر الماضي بإحساسه. انظر إليه كيف يغوص بذكائه: لماذا تردد عشيقته البرتين أبداً هذه الكلمة: أصحيح هذا؟ بمناسبة وبغير مناسبة؟ أتكون كلمة من جملة الكلمات التي يتعود الناس تكرارها دون أي قصد آخر؟ كلا، لأنها لو