كانت كذلك لرددتها البرتين بصورة آلية وبدون شعور بمعناها. ولكنها ترفقها بلهجة سؤال صادقة وبشيء من الغنج. أذن ماذا؟ أيبلغ النسيان بها أنها تحتاج الاستفهام والتأكد من كل ما يقال؟ غير محتمل. ولكن بروست يتغلغل في ظلمات ماضي عشيقته المجهول ويتصور زمناً كانت فيه البرتين عشيقة لغيره، وكان ذلك العشيق يقول لها: أتعلمين أني لم أر امرأة حتى اليوم تدانيك في الجمال أو أتعلمين أني أكن لك حباً كبيراً؟ فتجيبه بشيء من الدلال: أصحيح هذا؟، وتملكت منها العادة حتى غدت الآن تسأل نفس السؤال بنفس اللهجة لمن يقول لها: لقد غفوت أكثر من ساعة.
يقول بروست: كل حياة فيها سر ومجهول تستهوينا، كي نهتك سرها ونعريها من جمالها. في هذه الفكرة خلاصة حياة بروست وأدبه. وهي أول صلتي وتعلقي به لأني قرأت فيها حقيقة نفسي المرة، وحقيقة كل نفس تضم بين جوانحها وحشاً هداماً، يجمع بين رقة الشاعر وقسوة الجلاد. ترى مثل هذه النفوس تعشق الحياة، تهيم بمظاهرها المتنوعة وألوانها الشتيتة، تثمل من أدق طعم لها وتهفو مع أخف نسائمها. ولماذا؟ ألحب الحياة المجرد ولتعبدها تعبداً صوفياً؟ كلا. بل لتهدم مظاهرها وبواطنها، لتحل ألوانها وتفسد طعمها، لتوقف الحركة، لتسلب الحياة من الحياة!. . . وحش هدام أو طفل ساذج قاس، هكذا أرى بروست، والحياة دمية أمامه لا يهدأ له روع إلا إذا فككها وهتك سرها وأرجعها أجزائها البسيطة، بعد ذلك، كالطفل أمام دميته المحطمة، يقف بروست أمام الحياة وقفة اليائس المشدوه! ويلذلي تشبيه فنان كبر وست بفاتح وحشي كجنكيز، يمشي على ملايين الجماجم والإطلال، ويجيل فيها نظرة انتقام أخرس وتشفٍ بلا سبب! لماذا أسال جنكيز من الدم أنهاراً؟ وهو نفسه لا يدري. لماذا أنهال بروست على أصنام الحياة فأظهر للملأ فراغها؟ إطاعة للفن الذي في نفسه. أفيكون الفن، وهو ابن الحياة، ابناً عاقاً بها؟
يحب بروست المرأة، فتراه يقترب منها وكله إجلال وعبادة. يحب امرأة، فيخالها تختلف عن كل النساء غيرها، يراها فياضة بالأسرار، غنية بالغرائب، ثم يتابع اقترابه منها، لا يزال يدنو خفيف الخطى كاللص، وفي كل خطوة يسرق سراً من أسرارها، يمزق برقعاً من براقعها، إلى أن يصحو لنفسه فلا يرى أمامه إلا امرأة عادية، لا يلوح لها فكر أو يبدو منها عمل إلا ويعلم كنهه وعلته، فينصرف عنها قانطاً لأنه لم يعد لنفسه فيها غذاء.