أولع بروست منذ صغره بالعالم الارستقراطي، لما يحيطه من الأسرار ويحول دون الوصول إليه من العقبات، وكانت طفولته قد نفذت من مطالعة أخبار هذه الطبقة وتاريخها العجيب، فغدا إذا لمح امرأة ارستقراطية مارة بمركبتها في الطريق أو جالسة على مقعدها في الكنيسة، ازدحمت مخيلته بكل الصور والقصص التي قرأها وحسب أن هذه المرأة تضم في شخصها، في القبعة التي تلبسها والثوب الفضفاض الذي تجرره وراءها، ثروة لا متناهية من العجائب والغوا مض تجعل منها كائناً فوق منزلة البشر. ظل هذا الشوق اللجوج يذكى خياله حتى استطاع دخول المعبد الارستقراطي، وهناك بدأ زحفه البطيء على فريسته، مازال يتحبب إلى جماعة الإشراف من رجال ونساء، يحضر حفلاتهم ويسايرهم في نزهاتهم، يصغي بتعبد لأحاديثهم ويشخص إلى حركاتهم وتحياتهم وشكل مشيهم وقعودهم، ينساب كالأفعى في مشكلاتهم الشخصية والعائلية، حتى انبرى بعد بضع سنين وهو يحمل في يده صك إعدامهم، لأنه أزاح عنهم القناع فإذا هم آلات مسكينة تسيرهم تقاليد حقيرة، فيخضعون لها خضوع النعاج، وإذا بتلك العظمة الظاهرية تستر فراغاً في النفس وجفافاً في الشعور.
لقد رفع الكاتب لنا الستار عن العالم الارستقراطي فإذا بنا أمام مرسح تمثيل يلعب فيه الشريف الدور الذي تمليه عليه طبقته ولقبه، وينسى شخصه، بل يقتل شخصه من أجل دوره. انه دوق أو كونت قبل أن يكون إنساناً، إنه ومن قبل أن يكون حقيقة. فمهما بلغ حب ارستقراطي لشخص من غير منزلته لا يمكن أن يظهر له التقرب أكثر مما تسمح له قوانين طبقته. انظر كيف يحلل لنا بروست أشكال التحية عند الأشراف:
إذا اضطرت مدام دي كورفوازيه أن تحيي شخصاً أدنى من طبقتها فإنها تحني نحوه رأسها والقسم العلوي من جسمها بمقدار زاوية ٤٥ درجة. ولكنها لا تلبث أن ترجع هذا القسم العلوي من جسمها فجأة إلى الوراء بمقدار يقرب من المسافة التي انحنت بها في البدء كأنها تريد أن تسحب تواضعها الموقت الذي تظاهرت به أمام ذلك الشخص!
على أن الرجال الارستقراطيين يعكسون هذه الخطة فيبدأون سلفاً بسحب ما سيظهرونه لك من احترام موقت:
فالدوق دي غير مانت يبدو لأول وهلة عازماً على أن لا يحييك ثم يمد إليك ذراعه بكل