للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في ذلك أن المعاني تؤثر في الألفاظ فتبدل استعمالها وتغير دلالتها، لأنها متصورة في الأذهان ومتخلجة في النفوس قبل تكون الألفاظ وكثيراً ما نفكر ولا نجد الألفاظ التي نستطيع الدلالة بها على أفكارنا. فالمعاني، كما يقول الجاحظ، مبسوطة إلى غير غاية وممتدة إلى غير نهاية. أما أسماء المعاني فمتصورة معدودة ومحصلة محدودة واللفظ لا يدل إلا على جزء مما هو قائم في الصدر من المعاني حتى لقد يضيق نطاق اللغة عن التعبير عما يخالج النفس من الصور والأمثال، وكثيراً ما نستدل على أفكار الأشخاص وعادات العصور وأخلاق الشعوب بالألفاظ التي يستعملونها. وكلما كانت المعاني أكمل وأشرف كانت الألفاظ أبين وأنور. فالألفاظ ليست كما زعم (دوبونالد) سابقة للمعاني، بل هي تابعة لها.

ولو كانت الألفاظ أسباب المعاني لما فكر الإنسان إلا إذا تكلم. ولكننا نعرف بالتجربة أننا نفكر من غير أن نتكلم ونعرف أيضاً أن هناك كلاماً داخلياً تختلط فيه حدود الألفاظ. فكأن الألفاظ واسطة لا غاية أو كأنها جسر نعبره من غير أن ننتبه إلى جميع أجزاءه.

نعم أن الألفاظ تؤثر في المعاني لأن مدار الأمر في اللغة ليس الفهم فقط بل الغاية هي إفهام السامع. وهذه الحاجة إلى الإفهام تغير من حالة الفكر الأولى. فالألفاظ تثبت المعاني في الأصل كثيرة الانبساط قليلة الثبوت. وقد قال هاميلتون إن الألفاظ حصون المعاني لأنها تجزيء الفكر وتحدده وتحلله وتجعله واضحاً وكثيراً ما توحي بالصور والأمثال والأفكار فيصل الكاتب بواسطة الألفاظ إلى غير ما أنبأ به فكره. ونحن لا ننقل إلى السامع كل ما تختلج به نفوسنا بل نرجع إلى الألفاظ. ونغربل بها معانينا وفقاً لما يقتضيه الحال لأنني حينما أتكلم لا أتكلم للتفاهم مع نفسي بل للتفاهم مع مخاطبي. وهناك ألفاظ فارغة وهناك ألفاظ مليئة. إلا أن غاية الثقافة هي إحياء المعاني في أذهان المتعلمين لا حشو ذاكرتهم بالألفاظ. خير للإنسان أن يكون كثير المعاني قليل الألفاظ من أن يكون قليل المعاني كثير الألفاظ. فاللغة هي أذن واسطة لا غاية. وهي بالجملة معلول لا علة، ولكنها إذا تنظمت صارت هي أيضاً علة. نعم؟ أنها تؤثر في الثقافة بتثبيت المعاني وتحليل الأفكار وإبداع الصور والأمثال إلا أنها لا تحيا إلا بما تشتمل عليه من المعاني وتتحلى به من الأفكار. ولذلك كان ارتقاء العلوم والآداب والفلسفة وقوة المثل الأعلى والإيمان القومي، كل ذلك

<<  <  ج: ص:  >  >>