للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَبِغَيْرِ شَفَاعَةٍ، وَدُخُولُهُمْ النَّارَ إنَّمَا هُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَلَوْ غُفِرَ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ذُنُوبُهُمْ كُلُّهَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ النَّارَ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِتَكْذِيبِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً وَلَا يَكُونُ كُفْرًا؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَالتَّكْفِيرُ إنَّمَا يَكُونُ بِجَحْدِ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالتَّوَاتُرِ، فَإِنْ قُلْت فَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ إذَا قَالَ الْإِنْسَانُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَنْ يَقُولَ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا خِلَافُ مَا قَرَّرْته،.

وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُمْ يَقُولُوا {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: ٧] أَيْ تَابُوا مِنْ الْكُفْرِ وَاتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وَلَفْظُ الَّذِينَ عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ مِنْ الْكُفْرِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ عَامًّا فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: ٥] عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَرَّرْته قُلْت الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَإِنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْمِيمِ صَحَّ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَغْفِرَةِ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَدُخُولِهِمْ النَّارَ بِبَعْضٍ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَبِغَيْرِ شَفَاعَةٍ وَدُخُولُهُمْ النَّارَ إنَّمَا هُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَلَوْ غُفِرَ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ذُنُوبُهُمْ كُلُّهَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ النَّارَ فَيَكُونُ هَذِهِ الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِتَكْذِيبِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً وَلَا يَكُونُ كُفْرًا؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَالتَّكْفِيرُ إنَّمَا يَكُونُ بِجَحْدِ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالتَّوَاتُرِ. قَالَ فَإِنْ قُلْت فَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ إذَا قَالَ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَنْ يَقُولَ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا قَرَّرْته، وَقَدْ أَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُمْ يَقُولُونَ {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: ٧] أَيْ تَابُوا مِنْ الْكُفْرِ وَاتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وَلَفْظُ الَّذِينَ عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ عَنْ الْكُفْرِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ عَامًّا فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: ٥] عَامٌّ جَمِيعَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَرَّرْته. قَالَ قُلْت الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَإِنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْمِيمِ صَحَّ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَغْفِرَةِ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَدُخُولِهِمْ النَّارَ بِبَعْضٍ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

عَنْهُ

(الشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ يَأْمَنَ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ إلَى مُنْكَرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ إذَا نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ إمَّا فِي غَيْرِ النَّاهِي، وَإِمَّا فِي النَّاهِي كَأَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الزِّنَا فَيَقْتُلَهُ

(الشَّرْطُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِهِ، وَمُحَرَّمٌ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ الْمُلَابِسُ تَحْرِيمَهُ، وَإِذَا فُقِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْجَاهِلِ بِالْحُكْمِ النَّهْيُ عَمَّا يَرَاهُ، وَلَا الْأَمْرُ بِهِ، وَلَا لِمَنْ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ أَمَّا فِي غَيْرِ النَّاهِي فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ النَّاهِي فَعَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، وَمَنْدُوبٌ إذَا كَانَ لَا يَعْتَقِدُ الْمُلَابِسُ حِلَّهُ، وَلَا حُرْمَتَهُ، وَهُوَ مُتَقَارِبُ الْمَدَارِكِ وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا، وَالْمَتْرُوكُ مَنْدُوبًا لَا وَاجِبًا، وَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ بِأَنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِهِ بَلْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ الْإِزَالَةُ وَعَدَمُهَا وَالتَّأْثِيرُ وَعَدَمُهُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْإِزَالَةِ وَعَدَمُهَا وَالتَّأْثِيرُ وَعَدَمُهُ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ وَيَبْقَى الْجَوَازُ وَالنَّدْبُ وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْوُجُوبِ حَالَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَتْ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَأَنَّ لِلتَّحْرِيمِ ثَلَاثَ حَالَاتٍ

(الْحَالَةُ الْأُولَى) : مَا إذَا اعْتَقَدَ الْمُلَابِسُ لِلْمُنْكِرِ تَحْرِيمَهُ

(وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) مَا إذَا فُقِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ

(الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ) : مَا إذَا فُقِدَ الشَّرْطُ الثَّانِي وَتَحْتَهُ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ الْمُنْكَرَ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي غَيْرِ النَّاهِي فَيَتَّفِقَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ

(الْقِسْمُ الثَّانِي) : أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ الْمُنْكَرَ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي النَّاهِي بِأَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الزِّنَا فَيَقْتُلَهُ فَيَخْتَلِفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّاهُ بِالْأَوَّلِ نَظَرًا لِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ، وَقَالَ: هَذَا لَا يُمْنَعُ، وَالتَّغْرِيرُ بِالنُّفُوسِ مَشْرُوعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: ١٤٦] فَمَدَحَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قُتِلُوا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُمْ مَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَذْلَ النُّفُوسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَأْمُورٌ بِهِ، وَقُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَزْوِيجِ الرَّبِيبَةِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَجَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلَ الْجِهَادِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَلِمَةٍ وَكَلِمَةٍ كَانَتْ فِي الْأُصُولِ أَوْ الْفَرْعِ مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ الصَّغَائِرِ وَقَدْ خَرَجَ ابْنُ الْأَشْعَثِ مَعَ جَمْعٍ كَبِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>