وَحَقِيقَةُ الْكُفْرِ فِي نَفْسِهِ مَعْلُومَةٌ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً مِنْ الشَّرْعِ وَلَا تَبْطُلُ حَقِيقَتُهَا بِالشَّرِيعَةِ وَلَا تَصِيرُ غَيْرَ كُفْرٍ فَحِينَئِذٍ الْفَرْقُ مُشْكِلٌ وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَسْتَشْكِلُ هَذَا الْمَقَامَ وَيُعَظِّمُ الْإِشْكَالَ فِيهِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إلَى الْكَوَاكِبِ فِيهَا أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا مُدَبِّرَةُ الْعَالَمِ وَمُوجِدَةٌ لِمَا فِيهِ وَلَا شَيْءَ وَرَاءَهَا وَلَا خَفَاءَ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ وَثَانِيهَا أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا فَاعِلَةُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُؤَثِّرُ الْأَعْظَمُ مَعَهَا فَتَكُونُ نِسْبَتُهَا إلَى أَفْعَالِهَا كَنِسْبَةِ الْحَيَوَانِ إلَى أَفْعَالِهِ عَلَى رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يُوجِدُ أَفْعَالَهُ بِقُدْرَتِهِ مُسْتَقِلًّا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَعَلَّقُ بِمَقْدُورِهِ فَالْقَائِلُ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ كَذَلِكَ فَهَلْ لَا نُكَفِّرُهُ كَمَا أَنَّا لَا نُكَفِّرُ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهَذَا الْقَوْلُ كَانَ يَخْتَارُهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَمَنْ يَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَوَاكِبِ وَالْحَيَوَانَاتِ فَلَا يُكَفَّرُ مُعْتَقِدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ لِأَنَّ التَّذَلُّلَ وَالْعُبُودِيَّةَ ظَاهِرَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ كَبِيرُ اهْتِضَامٍ لِجَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ وَيُكَفَّرُ مُعْتَقِدُ أَنَّ الْكَوَاكِبَ فَعَّالَةٌ فِعْلًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَأَحْوَالَهَا غَائِبَةٌ عَنْ الْبَشَرِ فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى اعْتِقَادِ اسْتِقْلَالِهَا وَفَتْحِ أَبْوَابِ الْكُفْرِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالضَّلَالِ وَهَذَا كَانَ يَقُولُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُعَاصِرِينَ لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَثَالِثُهَا أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا فَاعِلَةٌ فِعْلًا عَادِيًّا لَا حَقِيقِيًّا وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ أَنْ يَخْلُقَ عِنْدَهَا إذَا تَشَكَّلَتْ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ فِي أَفْلَاكِهَا وَتَكُونَ فِي أَحْوَالِهَا وَرَبَطَ الْأَسْبَابَ بِهَا كَحَالِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ.
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَحِينَئِذٍ الْفَرْقُ مُشْكِلٌ وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَشْكِلُ هَذَا الْمَقَامَ وَيُعَظِّمُ الْإِشْكَالَ فِيهِ) قُلْتُ: إغْفَالُهُ مَا نَبَّهْت عَلَيْهِ أَوْقَعَهُ فِي هَذَا الْخَبَالِ وَعَظُمَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ شَيْخِهِ أَمْرُ الْإِشْكَالِ وَقَدْ تَبَيَّنَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ عَلَى الْكَمَالِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاقِي مِنْ الضَّلَالِ.
قَالَ: (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إلَى الْكَوَاكِبِ فِيهِ أَقْسَامٌ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قُلْتُ: مَا قَالَ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ.
قَالَ: (وَثَانِيهَا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ فَاعِلَةُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ الْأَعْظَمُ مَعَهَا إلَى قَوْلِهِ وَهَذَا كَانَ يَقُولُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُعَاصِرِينَ لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قُلْتُ الصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ قَالَ لِلْكَوَاكِبِ فِعْلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ خَطَأٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ فِعْلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ قَطُّ فَرْقًا مَا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا خَالِقَ سِوَاهُ لَكِنَّهُ مَنْ نَسَبَ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ إلَى الْكَوَاكِبِ فَذَلِكَ كُفْرٌ وَمَنْ نَسَبَهُ إلَى الْإِنْسَانِ فَفِيهِ الْخِلَافُ هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَوْ ضَلَالَةٌ.
قَالَ: (وَثَالِثُهَا أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا فَاعِلَةٌ فِعْلًا عَادِيًّا لَا حَقِيقِيًّا وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ أَنْ يَخْلُقَ عِنْدَهَا إذَا تَشَكَّلَتْ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ فِي أَفْلَاكِهَا إلَى قَوْلِهِ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
يُقْتَلُ مَنْ وُجِدَ فِي غَيْرِهَا أَلْبَتَّةَ نَظَرًا لِكَوْنِ مَا لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسٍ وَهُوَ ظَرْفُ الْمَكَانِ صَيَّرَ الْأَوَّلَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَإِذَا قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ اخْتَصَّ قَتْلُهُمْ بِرَمَضَانَ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَجْرُورَ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ صَيَّرَ الْأَوَّلَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَخَصَّصَهُ وَإِذَا قَالَ: لِيُقْتَلْ الْمُشْرِكُونَ وَزَيْدًا أَيْ مَعَ زَيْدٍ فَلَا يُقْتَلُونَ إلَّا إذَا وُجِدُوا مَعَهُ وَاللَّفْظُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ يَقْتَضِي قَتْلَهُمْ مُطْلَقًا لَكِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ صَيَّرَ الْأَوَّلَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَإِذَا قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إذْهَابًا لِغَيْظِكُمْ فَلَا يُقْتَلُونَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُقْتَلُونَ مُطْلَقًا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ صَيَّرَ الْأَوَّلَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَإِذَا قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ عُرَاةً اخْتَصَّ قَتْلُهُمْ بِحَالَةِ الْعُرْيِ وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لَقُتِلُوا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ صَيَّرَ الْأَوَّلَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَإِذَا قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةَ النَّارِ اخْتَصَّ الْقَتْلُ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ لَمَّا لَحِقَهُ الْبَدَلُ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ صَيَّرَهُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ.
وَإِذَا قَالَ: لَهُ عِنْدِي عِشْرُونَ رُمَّانَةً لَمْ يَلْزَمْهُ هَذَا الْعَدَدُ مِنْ غَيْرِ الرُّمَّانِ بَلْ مِنْ الرُّمَّانِ خَاصَّةً بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ لَمَّا لَحِقَهُ التَّمْيِيزُ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ صَيَّرَهُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَأَدْخَلَتْ الْكَافُ فِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ الْمُبَيِّنَ لِلنَّوْعِ أَوْ لِلْعَدَدِ فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُبَيِّنًا لِعَدَدِ طَالِقٍ وَهُوَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَصَيَّرَ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنْتِ طَالِقٌ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ وَلَا تَبِينُ بِهِ قَبْلَ النُّطْقِ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الثَّانِيَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكِرُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ وَالْإِبْطَالِ فَتَبِينُ بِالْأَوَّلِ قَبْلَ النُّطْقِ بِالثَّانِي فَلَا يَلْزَمُ بِالثَّانِي شَيْءٌ وَهَذَا فَرْقٌ عَظِيمٌ وَمَعَ هَذَا الْفَرْقِ لَا يَثْبُتُ الْقِيَاسُ فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَنْبَغِي لَوْ قَضَى بِهَا قَاضٍ لَنُقِضَ قَضَاؤُهُ وَيَمْتَنِعُ التَّقْلِيدُ فِيهَا لِوُضُوحِ بُطْلَانِهَا.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) لَا دَلِيلَ لِمَنْ يَقُولُ: الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ فِيمَا يُرْوَى أَنَّ «خَطِيبًا قَالَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ»