للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَرْعُ التَّصْدِيقِ بِالْآمِرِ بِهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَأَصْلِهِ مُنَاسِبٌ وَأَمَّا الدُّعَاءُ مَعَ السُّجُودِ وَالثَّنَاءُ مَعَ الرُّكُوعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ مَعَ الْأَمَاثِلِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَكَابِرِ فَإِنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا وَالْمَعَاصِيَ كُلَّهَا نِسْبَتُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى نِسْبَةً وَاحِدَةً لَا تَزِيدُهُ الطَّاعَاتُ وَلَا تَنْقُصُهُ الْمَعَاصِي وَإِنَّمَا أَمَرَ عِبَادَهُ لِتَظْهَرَ مِنْهُمْ الطَّاعَةُ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ مَعَ الْأَكَابِرِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ السُّجُودُ فِي الْعِبَادَةِ أَبْلَغَ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إذَا كَانَ سَاجِدًا» وَكَانَ بَذْلُ الدِّينَارِ أَفْضَلَ مِنْ بَذْلِ الدِّرْهَمِ فِي الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ أَبْلَغُ وَارْتِكَابُ الْمَشَاقِّ فِي تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ يَكُونُ مُوجِبًا لِمَزِيدِ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّوَاعِيَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا.

وَلَمَّا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ مَعَ الْمُلُوكِ أَنْ يُقَدِّمُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الطَّلَبِ مِنْهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَاسْتِعْطَافًا لِأَنْفُسِهِمْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الثَّنَاءَ وَالتَّمْجِيدَ لَهُ فِي الرُّكُوعِ وَجَعَلَ الدُّعَاءَ فِي السُّجُودِ بَعْدَ الثَّنَاءِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمَّا سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَقِيلَ لَهُ هَذَا الثَّنَاءُ فَأَيْنَ الدُّعَاءُ فَأَنْشَدَ أَبْيَاتِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ

أَأَطْلُبُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُك إنَّ شِيمَتَك الْحَيَاءُ

إذَا أَثْنَى عَلَيْك الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِك الثَّنَاءُ

كَرِيمٌ لَا يُغَيِّرُهُ صَبَاحٌ ... عَنْ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ وَلَا مَسَاءُ

وَعِلْمُك بِالْحُقُوقِ وَأَنْتَ قِدَمًا ... لَك الْحَسَبُ الْمُهَذَّبُ وَالْوَفَاءُ

يَعْنِي فَلَمَّا كَانَ الثَّنَاءُ يُحَصِّلُ مِنْ الْكَرِيمِ مَا يُحَصِّلُهُ الدُّعَاءُ سُمِّيَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُعَاءً؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الثَّنَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ فَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ جَعَلَ لَهَا الشَّرْعُ مَوْطِنًا وَهُوَ الْقِيَامُ؛ لِأَنَّهُ حَالَةُ اسْتِقْرَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْفِكْرُ مِنْ التَّأَمُّلِ لِمَعَانِي الْقِرَاءَةِ وَالِاتِّعَاظِ بِوَعِيدِهَا وَوَعْدِهَا وَالتَّفْكِيرِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا مَعَ حُسْنِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُنَاجَاةِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لَا تُنَاسِبُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لِضِيقِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا فِي حَالَةِ الِانْحِنَاءِ وَانْحِصَارِ الْأَعْضَاءِ وَحَبْسِ النَّفَسِ فَتُنَاسِبُ الْمَنْعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَمَّا عُيِّنَ لَهَا مَوْطِنٌ نَاسَبَ أَنْ تُعَيَّنَ بَقِيَّةُ الْمَوَاطِنِ لِغَيْرِهَا مِنْ الثَّنَاءِ الْمَحْضِ وَالدُّعَاءِ الْمَحْضِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ قَدْ لَا تَكُونُ ثَنَاءً وَلَا دُعَاءً فَتَشْتَمِلُ الصَّلَاةُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَلَا تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ»

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

نَفْسِهِ وَقَدْ وَرَدَ طَلَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَعَسَى أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وَمِنْهَا الثَّنَاءُ وَالتَّمْجِيدُ لَهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا وَقَدْ وَرَدَ طَلَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ لَمَّا تَقَرَّرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ مَعَ الْأَمَاثِلِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَكَابِرِ؛ إذْ نِسْبَةُ كُلٍّ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ لَا تَزِيدُهُ الطَّاعَاتُ وَلَا تَنْقُصُهُ الْمَعَاصِي وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ مَعَ مَنْ ذَكَرَ أَنْ يُقَدِّمُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الطَّلَبِ مِنْهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَاسْتِعْطَافًا لِأَنْفُسِهِمْ نَاسَبَ جَعْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الثَّنَاءَ وَالتَّمْجِيدَ لَهُ فِي الرُّكُوعِ وَجَعْلَ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ بَعْدَ الثَّنَاءِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ السُّجُودُ فِي الْعِبَادَةِ أَبْلَغَ شَرْعًا مِنْ الرُّكُوعِ كَمَا أَنَّ بَذْلَ الدِّينَارِ صَدَقَةً أَبْلَغُ فِي الْعَادَةِ مِنْ بَذْلِ الدِّرْهَمِ وَأَبْلَغِيَّةُ السُّجُودِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْإِفْرَاطُ فِي الْقُرْبِ مِنْ الرَّبِّ تَعَالَى قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إذَا كَانَ سَاجِدًا» . وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ أَشَقُّ مِنْ الرُّكُوعِ لِمَا سَيَأْتِي، وَارْتِكَابُ الْأَشَقِّ فِي تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّوَاعِيَةِ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِمَزِيدِ الْأُجُورِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَحَمْزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا وَكَانَ الدُّعَاءُ مُخَّ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الطَّلَبِ، وَالثَّنَاءُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ حَتَّى سُمِّيَ دُعَاءً فِي قَوْلِهِ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَقِيلَ لَهُ هَذَا الثَّنَاءُ فَأَيْنَ الدُّعَاءُ فَأَنْشُد أَبْيَاتِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ وَهِيَ

أَأَطْلُبُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُك إنَّ شِيمَتَك الْحَيَاءُ

إذَا أَثْنَى عَلَيْك الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِك الثَّنَاءُ

كَرِيمٌ لَا يُغَيِّرُهُ صَبَاحٌ ... عَنْ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ وَلَا مَسَاءُ

وَعِلْمُك بِالْحُقُوقِ وَأَنْتَ قِدَمًا ... لَك الْحَسَبُ الْمُهَذَّبُ وَالْوَفَاءُ

يَعْنِي فَلَمَّا كَانَ الثَّنَاءُ يُحَصِّلُ مِنْ الْكَرِيمِ مَا لَا يُحَصِّلُهُ الدُّعَاءُ سُمِّيَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُعَاءً؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»

<<  <  ج: ص:  >  >>