وَهَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثُ مُنَاسِبَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِمَا وُضِعَ فِيهِ فَالْقِرَاءَةُ فِي الْقِيَامِ لِلتَّمَكُّنِ وَالدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ لِفَرْطِ الْقُرْبِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَةُ الْمُلُوكِ وَأَمَّا كَوْنُ الرُّكُوعِ لَا يَتَقَرَّبُ بِهِ وَحْدَهُ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ قُرْبَةً فِي التِّلَاوَةِ وَشُكْرِ النِّعَمِ عِنْدَ مَنْ يَرَى سَجْدَةَ الشُّكْرِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرَاهَا دُونَ مَالِكٍ فَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّقَرُّبِ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ لَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ، وَكَذَلِكَ أَرْكَانُ الْحَجِّ الَّتِي لَا يُتَقَرَّبُ بِهَا مُنْفَرِدَةً الْغَالِبُ عَلَيْهَا التَّعَبُّدُ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ شُرِعَ قُرْبَةً وَحْدَهُ دُونَ السَّعْيِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ قُرْبَةً وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ اُشْتُرِطَ مَعَ الطَّوَافِ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالْفُرُوقِ انْبَنَى قَوْلُ الْقَائِلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ لَمَا صَارَ شَرْطًا لَهُ بِالنَّذْرِ كَالصَّلَاةِ لَكِنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا لَزِمَهُ ذَلِكَ وَوَجَبَ الصَّوْمُ وَصِحَّةُ هَذَا الْكَلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ:
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَنْدُوبٍ وَلَمَّا أَثَّرَ النَّذْرُ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ مَعَ الِاعْتِكَافِ إذَا نَذَرَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَطْلُوبٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا.
وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَائِمًا لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبًا فِي نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ النَّذْرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ) وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَعَ التَّخْيِيرِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ يَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِمَفْهُومِ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَيَكُونُ الْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ وَالْخُصُوصِيَّاتُ هِيَ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ، وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَعَ التَّخْيِيرِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ يَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِمَفْهُومِ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا) قُلْت: قَوْلُهُ: إنَّ الْأَمْرَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَحَدِهَا - صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا - لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَفْهُومُ أَحَدِ الْأُمُورِ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهَا مُبْهَمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَا الْحَقِيقَةُ الْمُشْتَرَكُ فِيهَا، وَلَوْ تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ لَلَزِمَ شُمُولُ الْوُجُوبِ لِكُلِّ شَخْصٍ مِمَّا فِيهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، قُلْت: لَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ الْمُشْتَرَكُ فِيهَا.
قَالَ (فَيَكُونُ الْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ) قُلْت قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ لَيْسَ الْمُشْتَرَكَ قَالَ (وَالْخُصُوصِيَّاتُ هِيَ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
نَاسَبَ تَقْدِيمَ الْوَسِيلَةِ فِي الرُّكُوعِ وَتَأْخِيرَ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ وَأَشَقُّ وَأَفْرَطُ فِي الْقُرْبِ مِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَمَّا أَمْثِلَةُ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ افْتِرَاقُهُ دُونَ جَمْعِهِ فَمِنْهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مَطْلُوبَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مَطْلُوبَانِ كَذَلِكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» عَكْسُ مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ مَعَ السُّجُودِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَيَّنَ الرُّكُوعَ لِلثَّنَاءِ الْمَحْضِ وَالسُّجُودَ لِلدُّعَاءِ الْمَحْضِ نَاسَبَ أَنْ يُعَيِّنَ الْقِيَامَ مَوْطِنًا لِلْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ لَا تَكُونُ ثَنَاءً وَلَا دُعَاءً لِتَشْمَلَ الصَّلَاةُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَلَا تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جَعَلَ الْقِيَامَ مَوْطِنًا لِلْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ حَالَةُ اسْتِقْرَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْفِكْرُ مِنْ التَّأَمُّلِ لِمَعَانِي الْقِرَاءَةِ وَالِاتِّعَاظِ بِوَعِيدِهَا وَوَعْدِهَا وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا مَعَ حُسْنِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُنَاجَاةِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ ضِيقِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا فِي حَالَةِ الِانْحِنَاءِ، وَالثَّانِي مِنْ انْحِصَارِ الْأَعْضَاءِ وَحَبْسِ النَّفْسِ وَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْقِرَاءَةِ كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ الدُّعَاءَ فِي السُّجُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَرْطِ الْقُرْبِ وَالثَّنَاءِ فِي الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلدُّعَاءِ وَلِجَرَيَانِهِ عَلَى عَادَةِ الطَّلَبِ مِنْ الْمُلُوكِ كَمَا عَلِمْتَ وَمِنْهَا الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَبُ التَّقَرُّبِ مِنْهُ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يُطْلَبْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِقَاعِدَتَيْنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَائِمًا لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَنْدُوبٍ فَلَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ النَّذْرُ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ مَعَ الصَّلَاةِ كَمَا أَثَّرَ فِي وُجُوبِهِ مَعَ الِاعْتِكَافِ إذًا نَذْرَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ مَعَ الصَّلَاةِ.
وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبًا فِي نَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَطْلُوبٌ مَعَ الِاعْتِكَافِ فَمِنْ هُنَا ظَهَرَ صِحَّةُ قَوْلِ الْقَائِلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ لَمَا كَانَ شَرْطًا لَهُ بِالنَّذْرِ كَالصَّلَاةِ لَكِنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا لَزِمَهُ ذَلِكَ وَوَجَبَ الصَّوْمُ فَافْهَمْ وَأَمَّا أَمْثِلَةُ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ جَمْعُهُ دُونَ افْتِرَاقِهِ فَمِنْهَا الرُّكُوعُ مَعَ سَجْدَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبُ الْجَمْعِ وَلَمْ يُشْرَعْ التَّقَرُّبُ بِأَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا قَالَ الْأَصْلُ مَا مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قُرْبَةً إلَّا