مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ سَيْفَ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ الْمَوْضُوعِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ حَكَى عَنْ أَصْحَابِنَا صِحَّةَ النَّهْيِ مَعَ التَّخْيِيرِ كَالْأَمْرِ وَحَكَى عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْعَهُ وَالْحَقُّ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنْ يُرِيدُوا التَّخْيِيرَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَبْقَى خِلَافٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا)
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَوْ غَيْرَهُ إذَا خَيَّرَ بَيْنَ أَشْيَاءَ يَكُونُ حُكْمُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَاحِدًا وَأَنْ لَا يَقَعَ التَّخْيِيرُ إلَّا بَيْنَ وَاجِبٍ وَوَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ وَمَنْدُوبٍ أَوْ مُبَاحٍ وَمُبَاحٍ وَكَذَلِكَ هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هُنَالِكَ تَخْيِيرٌ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَتَخْيِيرٌ لَا يَقْتَضِيهَا وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ التَّخْيِيرَ مَتَى وَقَعَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ وَقَعَتْ التَّسْوِيَةُ أَوْ بَيْنَ الْجُزْءِ وَالْكُلِّ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَقَعْ التَّسْوِيَةُ وَيَتَّضِحُ لَك هَذَا الْفَرْقُ بِذِكْرِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) تَخْيِيرُهُ تَعَالَى بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَهُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا وَالتَّخْيِيرُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ وَالْإِطْعَامُ فَالْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ وَعَلَى كُلِّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ سَيْفَ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا صِحَّةَ النَّهْيِ مَعَ التَّخْيِيرِ كَالْأَمْرِ وَحَكَى عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْعَهُ) قُلْت: مَا حَكَاهُ سَيْفُ الدِّينِ صَحِيحٌ وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ صَحِيحٌ وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بَاطِلٌ.
قَالَ (وَالْحَقُّ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ) قُلْت: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ بِعَكْسِ مَا قَالَ وَأَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْأَصْحَابِ.
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ إلَى قَوْلِهِ وَتَخْيِيرٍ لَا يَقْتَضِيهِ) قُلْت الصَّحِيحُ مَا اعْتَقَدَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَسُطِّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ دُونَ مَا اخْتَارَهُ هُوَ وَارْتَضَاهُ.
قَالَ (وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ إلَى قَوْلِهِ بِذِكْرِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ) قُلْت: مَا قَالَهُ هُنَا مُجَرَّدُ دَعْوَى.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَخْيِيرُهُ تَعَالَى بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَهُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا) قُلْت: قَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ.
قَالَ (وَالتَّخْيِيرُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ وَالْإِطْعَامُ) قُلْت: ذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ (فَالْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ) قُلْت: لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ لَوَجَبَ الْجَمِيعُ بَلْ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.
قَالَ (وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ وَعَلَى كُلِّ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِأَيٍّ مِنْهَا يَفْعَلُ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ قَوْلُ الْمَحَلِّيِّ أَنَّ الْخُرُوجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ لِكَوْنِهِ أَحَدَهَا لَا لِخُصُوصِهِ أَيْ كَوْنُهُ مُخْتَارَ الْمُكَلَّفِ لِلْقَطْعِ بِاسْتِوَاءِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ انْتَهَى عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِمُرَاعَاةِ الْخُصُوصِيَّةِ نَظَرُ التَّأَدِّي الْوَاجِبِ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ بِهَا الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ مَحَلَّ ثَوَابِ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا هَلْ هُوَ الْأَعْلَى أَوْ الْأَوَّلُ أَوْ الْأَحَدُّ وَمَحَلُّ الْعِقَابِ هَلْ هُوَ الْأَدْنَى أَوْ الْأَحَدُّ؟ خِلَافُ التَّحْقِيقِ وَالتَّحْقِيقُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ أَنَّ مَحَلَّ ثَوَابِ الْوَاجِبِ وَالْعِقَابِ أَحَدُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحَدُهَا وَلَا نَظَرَ إلَى خُصُوصِيَّةِ مَا وَقَعَ لِأَنَّهُ حَتَّى بَعْدَ الْوُقُوعِ لَمْ يَزَلْ مِنْ حَيْثُ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ مُخَيَّرًا وَإِلَّا لَاخْتَلَفَ الْوَاجِبُ بِاخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا قَائِلَ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ وَكَذَا يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْ الزَّائِدِ عَلَى مَنْ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ مِنْهَا أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحَدُهَا لَا مِنْ حَيْثُ خُصُوصِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ وَمُقْتَضَاهُ الثَّوَابُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ.
وَأَمَّا خَصِيصِيَّةُ الْمُتَعَلِّقِ وَمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فَيُثَابُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ دُخُولُهَا فِي الْأَمْرِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ ثَوَابُ الْمَنْدُوبِ كَمَا فِي الْمَحَلِّيِّ وَالشِّرْبِينِيِّ وَكَمَا لَا يَلْزَمُ إيجَابُ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْصِيلَ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِمُرَاعَاةِ الْخُصُوصِيَّةِ نَظَرًا لِتَأَدِّي الْوَاجِبُ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ بِهَا أَوْ تَحْصِيلُ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحَدُهَا بِنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ كَمَا فِي نَحْوِ لَا تَتَنَاوَلْ السَّمَكَ أَوْ اللَّبَنَ أَوْ الْبَيْضَ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَرْكَ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِمُرَاعَاةِ الْخُصُوصِيَّةِ نَظَرًا لِتَأَدِّي تَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ بِهَا أَوْ تَرْكُ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحَدُهَا فِي ضِمْنٍ أَيْ مُعَيَّنٍ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ فَعَلَى الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ فِي أَيِّ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، وَلَهُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ وَاحِدٌ فَتَحْرِيمُ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ عُمُومِ السَّلْبِ بَلْ مِنْ بَابِ سَلْبِ الْعُمُومِ فَيَتَحَقَّقُ فِي وَاحِدٍ فَلَيْسَ النَّهْيُ كَالنَّفْيِ وَيُقَاسُ عَلَى التَّحْرِيمِ الْكَرَاهَةُ إلَّا فِي الْعِقَابِ كَمَا فِي الْمَحَلِّيِّ وَالشِّرْبِينِيِّ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَمْرِ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ يُوجِبُ وَاحِدًا مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَلَا يُوجِبُهُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ إنَّمَا يُوجِبُ الْكُلَّ وَيَسْقُطُ بِوَاحِدٍ أَوْ وَاحِدًا مِنْهَا مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ أَوْ مَا يَخْتَارُهُ الْمُكَلَّفُ لِلْفِعْلِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ وَبَيْنَ كَوْنِ النَّهْيِ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ يُحَرِّمُ وَاحِدًا مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَلَا يُحَرِّمُهُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ إنَّمَا يُحَرِّمُ الْكُلَّ وَيَسْقُطُ بِتَرْكِ وَاحِدٍ