للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَكُونُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فَالْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ وَالْكِسْوَةُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَالْغَنَمُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ وَغَيْرُهَا مِنْ النَّظَائِرِ فَهَذَا هُوَ ضَابِطُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.

(الْفَرْقُ الْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عِقَابِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عَاقِبَتِهِ لَا مِنْ عِقَابِهِ) هَذَا الْمَوْضِعُ أَشْكَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَتَحْرِيرُهُ وَبَسْطُهُ وَتَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنْ نَقُولَ:

أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَمُتَعَذِّرُ الْوُقُوعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَيِّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عِقَابِهِ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ فَعَلْت هَذَا بِعَيْنِهِ عَافَيْتُك فَهَذَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ التَّخْيِيرِ أَبَدًا، وَأَمَّا مَا يُخْشَى مِنْ عَاقِبَتِهِ فَوُقُوعُ التَّخْيِيرِ فِيهِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فَمِنْهَا «مَا وَقَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ خَمْرٌ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ شُرْبِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَاخْتَارَ اللَّبَنَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اخْتَرْت الْفِطْرَةَ وَلَوْ اخْتَرْت الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُك» فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ الْمُغْوِي حَرَامٌ وَالْفِطْرَةُ مَطْلُوبَةٌ فَكَيْفَ يُخَيَّرُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمَطْلُوبِ وُجُودُهُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهُ حَرَامٌ أَنَّ السَّبَبَ لِلضَّلَالِ حَرَامٌ وَشُرْبُ هَذَا الْقَدَحِ سَبَبُ ضَلَالِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَكُونُ حَرَامًا وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّبَنِ.

وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا فَكَيْفَ يُخَيَّرُ بَيْنَ سَبَبِ الْهِدَايَةِ وَسَبَبِ الضَّلَالَةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَاقِبَةِ لَا مِنْ بَابِ الْعِقَابِ وَالْمُمْتَنِعُ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَبَسْطُهُ أَنَّ الْعِقَابَ يَرْجِعُ إلَى مَنْعٍ مِنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ فَهُوَ تَحْرِيمٌ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهَا وَالْعَاقِبَةُ تَرْجِعُ إلَى أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فِي الْحَوَادِثِ لَا بِخِطَابِهِ وَكَلَامِهِ فَلَا مُضَادَّةَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا يُضَادُّ الْإِذْنَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَنْعُ مِنْ الْكَلَامِ حَتَّى يَصِيرَ افْعَلْ لَا تَفْعَلْ، أَمَّا أَثَرُ الْقُدْرَةِ وَالْقَدَرِ فَلَا يُضَادُّ الْإِذْنَ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَمَةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخَيَّرُ بَيْنَ سُكْنَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ مَثَلًا أَوْ تَزَوُّجِ إحْدَى هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ أَوْ شِرَاءِ إحْدَى هَاتَيْنِ الْفَرَسَيْنِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ النَّاشِئِ مِنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ أَمْكَنَ أَنْ يُخْبِرَهُ الْمُخْبِرُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّك لَوْ اخْتَرْت مَا تَرَكْت مِنْ الدَّارَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ وَالْفَرَسَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ ضَلَالِك وَهَلَاكَ مَالِكِ وَذُرِّيَّتِك وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ» وَقَالَ بِحَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَمَّا «قِيلَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ دَارٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَكَنَّاهَا وَالْعَدَدُ وَافِرٌ وَالْمَالُ كَثِيرٌ فَذَهَبَ الْعَدَدُ وَالْمَالُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعُوهَا ذَمِيمَةً» وَلَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فَإِنَّا نُجَوِّزُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

وَالْفَرْقُ الْخَمْسُونَ قُلْت: مَا قَالَهُ فِي هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْعَامِلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَحَمُّلَ وَظِيفَةِ الْإِنْظَارِ الَّتِي حَمَلَ عَلَيْهَا بِإِيجَابِهَا عَلَيْهِ إلَيْهَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْإِبْرَاءِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اخْتِيَارِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْفَرَائِضِ عَلَى غَيْرِهَا فَلَمْ تَنْخَرِمْ قَاعِدَةُ أَفْضَلِيَّةِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ اهـ. قُلْت: وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ فَالصَّوَابُ إبْدَالُ هَذَا الْفَرْقِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُبَاحِ بِالْجُزْءِ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُبَاحِ بِالْجُزْءِ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ بِالْكُلِّ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا.

قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُبَاحَ بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ لَا بِالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُبَاحِ بِالْجُزْءِ وَبِاعْتِبَارِهِ بِالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ وَالْأَوَّلُ يُطْلَقُ بِإِطْلَاقَيْنِ الْأَوَّلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالْآخَرُ مِنْ حَيْثُ يُقَالُ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَالثَّانِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَمْرٍ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَمْرٍ مَطْلُوبِ التَّرْكِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِمُخَيَّرٍ فِيهِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِالْجُزْءِ بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ الْمَطْلُوبَ الْفِعْلَ بِالْكُلِّ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ خَادِمٌ لَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْمُبَاحُ بِالْجُزْءِ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ بِالْكُلِّ بِالِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فَرَاجِعَانِ إلَى هَذَا الْقَسَمِ الثَّانِي وَذَلِكَ أَنَّ الْمُبَاحَ إنْ كَانَ خَادِمًا يُعْتَبَرُ بِمَا يَكُونُ خَادِمًا لَهُ وَالْخِدْمَةُ إنْ كَانَتْ فِي طُرُقِ التَّرْكِ كَتَرْكِ الدَّوَامِ عَلَى التَّنَزُّهِ فِي الْبَسَاتِينِ وَسَمَاعِ تَغْرِيدِ الْحَمَامِ وَالْغِنَاءِ الْمُبَاحِ كَانَ تَرْكُ الدَّوَامِ فِيهِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَادِمٌ لِمَا يُضَادُّ الضَّرُورِيَّاتِ وَهُوَ الْفَرَاغُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفِ الْفِعْلِ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَلَالِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ كَانَ الدَّوَامُ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَادِمُ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ أَصْلُ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْخَادِمُ لِلْمُخَيَّرِ فِيهِ عَلَى حُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُ خَادِمٌ لَهُ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَادِمًا لِقَطْعِ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةِ دِينٍ وَلَا دُنْيَا فَهُوَ إذًا خَادِمُ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَمَّا كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ كَانَ عَبَثًا أَوْ كَالْعَبَثِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَادِمًا لِقَطْعِ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةِ دِينٍ وَلَا دُنْيَا فَهُوَ إذًا خَادِمُ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ وَتَلَخَّصَ أَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>