للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِنْظَارُ فَتَحَرَّرَ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَأَنَّ التَّخْيِيرَ إذَا وَقَعَ بَيْنَ الْمُتَبَايِنَاتِ اقْتَضَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءُ وَالْكُلُّ لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةُ بَلْ يَتَحَتَّمُ الْأَقَلُّ وَالْجُزْءُ دُونَ الزَّائِدِ عَلَيْهِ.

(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُتَبَايِنَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ)

وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيرِ اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ لَا لِمَعْنًى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ خِصَالَ الْكَفَّارَةِ وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَلَا يُسَمُّونَ تَخْيِيرَ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ رِقَابِ الدُّنْيَا فِي إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهَا وَاجِبًا مُخَيَّرًا، وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ شِيَاهِ الدُّنْيَا فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٍ لَا يُسَمُّونَهُ وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَكَذَلِكَ دِينَارٌ مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا وَالسُّتْرَةُ بِثَوْبٍ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبًا وَالْوُضُوءُ بِمَاءٍ مِنْ مِيَاهِ الدُّنْيَا وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يُسَمُّونَ ذَلِكَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا بَلْ يَقْصُرُونَ ذَلِكَ عَلَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَنَحْوِهَا، وَضَابِطُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّخْيِيرَ مَتَى وَقَعَ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَهُوَ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ وَمَتَى وَقَعَ بَيْنَ أَفْرَادِ جِنْسٍ وَاحِدٍ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِنْظَارُ) قُلْت: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبِ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ وَلَعَلَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا زَعَمَ وَغَايَتُهُ أَوْ غَايَةُ مَنْ يَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ النَّظِرَةُ إرَاحَةٌ لِلْغَرِيمِ مِنْ مُؤْنَةِ الدَّيْنِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيْسَرَةِ، وَالْإِبْرَاءُ إرَاحَةٌ لِلْغَرِيمِ مِنْ مُؤْنَةِ الدَّيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِرَاحَةَ الْكُلِّيَّةَ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ الْإِرَاحَةِ غَيْرِ الْكُلِّيَّةِ فَتَكُونُ أَعْظَمَ أَجْرًا وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُحْتَجُّ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ قَاعِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَفَاضُلِ الْأَعْمَالِ الْمُتَّحِدَةِ تَفَاضُلُ أَحْوَالِ عَامِلِيهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَفَاضُلُ الْأَعْمَالِ أَنْفُسِهَا ثَانِيًا ثُمَّ تَفَاضُلُ أَحْوَالِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا إنْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةَ النَّفْعِ ثَالِثًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» . فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ أَوَّلًا تَفَاضُلَ أَحْوَالِ الْمُنْتَفِعِ لَسَبَقَتْ مِائَةُ الْأَلْفِ الدِّرْهَمَ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ نَفْعًا بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَّلًا حَالُ الْعَامِلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَحَمُّلَ وَظِيفَةِ الْإِنْظَارِ الَّتِي حُمِلَ عَلَيْهَا وَاضْطُرَّ بِإِيجَابِهَا عَلَيْهِ إلَيْهَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْإِبْرَاءِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْفَرَائِضِ عَلَى غَيْرِهَا وَعَلَى هَذَا لَا تَنْخَرِمُ قَاعِدَةُ أَفْضَلِيَّةِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ وَمَا قَالَ مِنْ كَوْنِ التَّخْيِيرِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُتَبَايِنَاتِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ وَبَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ إلَى آخِرِهِ قَدْ تَبَيَّنَّ بُطْلَانُهُ

. قَالَ الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ.

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا كَيْفَ وَالْمُسَافِرُ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُمَا وَإِبْدَالُهَا بِالْأَرْبَعِ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ غَلَطَهُ تَوَهُّمُهُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ هُمَا الْمُجْتَمِعَتَانِ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْأَرْبَعِ وَلَا مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الزَّائِدَ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا وَالزَّائِدُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا بَلْ عِنْدَ فِعْلِ بَدَلِهِ فَلَمْ يَقَعْ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ وُقُوعَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ جُزْءٍ وَكُلٍّ فَمَا ادَّعَاهُ وَتَوَهَّمَهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ مِنْ الْقَاعِدَةِ.

وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الثُّلُثَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ ثُلُثٌ وَإِلَّا لَكَانَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ مُطْلَقًا حَتَّى يَكُونَا مَنْدُوبَيْنِ بَلْ عِنْدَ قِيَامِ الثُّلُثِ فَلَمْ يَقَعْ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَلَا سَبَبُهُ وُقُوعُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ بَلْ التَّخْيِيرُ هُنَا مُسَاوٍ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ لَا مُفَارِقَ لَهُ إلَّا عِنْدَ مَنْ اعْتَرَاهُ الْغَلَطُ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الْجُزْءَ الْمُنْفَرِدَ الْمُنْفَصِلَ هُوَ الْجُزْءُ الْمُجْتَمِعُ الْمُتَّصِلُ، وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تُجْمِعْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ النَّظِرَةِ لِلْمُعْسِرِ وَإِبْرَائِهِ بَلْ النَّظِرَةُ لَهُ مُتَعَيَّنٌ وُجُوبُهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِرَبِّ الدَّيْنِ إبْرَاءُ غَرِيمِهِ مِنْهُ وَإِسْقَاطُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا عَنْهُ تُوُهِّمَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَاخْتَصَّ تَسْوِيغُ الْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ بِالْمُعْسِرِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا مِنْ بَابِ الْأَخْذِ عِنْدَ الْمَيْسَرَةِ أَوْ التَّرْكِ جُمْلَةً وَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ.

فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ أَصْلًا وَمَا زَعَمَهُ مِنْ أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبِ وَإِنْ أَمْكَنَ تَوْجِيهُهُ بِأَنَّ النَّظِرَةَ إرَاحَةٌ لِلْغَرِيمِ مِنْ مُؤْنَةِ الدَّيْنِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيْسَرَةِ وَالْإِبْرَاءُ إرَاحَةٌ لِلْغَرِيمِ مِنْ مُؤْنَةِ الدَّيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِرَاحَةَ الْكُلِّيَّةَ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ الْإِرَاحَةِ غَيْرِ الْكُلِّيَّةِ فَتَكُونُ أَعْظَمَ أَجْرًا، إلَّا أَنَّ الْقَاعِدَةَ هُنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَفَاضُلِ الْأَعْمَالِ الْمُتَّحِدَةِ تَفَاضُلُ أَحْوَالِ عَامِلِيهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَفَاضُلُ الْأَعْمَالِ أَنْفُسِهَا ثَانِيًا ثُمَّ تَفَاضُلُ أَحْوَالِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا إنْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةَ النَّفْعِ ثَالِثًا، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ أَوَّلًا تَفَاضُلَ أَحْوَالِ الْمُنْتَفِعِ لَسَبَقَتْ مِائَةُ الْأَلْفِ الدِّرْهَمَ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ نَفْعًا بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَّلًا حَالُ

<<  <  ج: ص:  >  >>