وَالْوَاقِعُ مِنْ عَدَمٍ أَوْ وُجُودٍ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ عَدَمُ الْمِلْكِ وَيَثْبُتُ نَقِيضُهُ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّقْدِيرِ فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ الْعَدَمُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَفِعِ لَا لِأَنَّا نَرْفَعُهُ بَلْ نُعْطِيهِ الْآنَ حُكْمَ الِارْتِفَاعِ مِنْ إجْزَاءِ الْعِتْقِ وَثُبُوتِ الْوَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تُقَدَّرُ مِلْكُ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ مِنْ قَبْلِ الْمَوْتِ بِالزَّمَنِ لِيَصِحَّ الْإِرْثُ خَاصَّةً وَهَذِهِ التَّقَادِيرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأُمْنِيَّةِ فِي إدْرَاكِ النِّيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ عَنْ التَّقْدِيرِ وَهَذِهِ الْفُرُوعُ كُلُّهَا تَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ قَاعِدَةِ ارْتِفَاعِ الْوَاقِعِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَقْدِيرِ ارْتِفَاعِ الْوَاقِعِ وَأَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَحِيلٌ مُطْلَقًا وَالثَّانِيَ مُمْكِنٌ مُطْلَقًا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَسَاقُطِهَا)
اعْلَمْ أَنَّ التَّدَاخُلَ وَالتَّسَاقُطَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ قَدْ اسْتَوَيَا فِي أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي دَخَلَ فِي غَيْرِهِ وَلَا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي سَقَطَ بِغَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّدَاخُلَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ مَعْنَاهُ أَنْ يُوجَدَ سَبَبَانِ مُسَبِّبُهُمَا وَاحِدٌ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مُسَبَّبٌ وَاحِدٌ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مُسَبَّبًا مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ يَتَرَتَّبَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ مُسَبَّبَانِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَوَّلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَالثَّانِي أَيْضًا وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَمَّا التَّدَاخُلُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ فَقَدْ وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ:
الْأَوَّلُ: الطَّهَارَاتُ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ إذَا تَكَرَّرَتْ أَسْبَابُهُمَا الْمُخْتَلِفَةُ كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ أَوْ الْمُتَمَاثِلَةُ كَالْجَنَابَتَيْنِ وَالْمُلَامَسَتَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ وُضُوءٌ وَاحِدٌ وَغُسْلٌ وَاحِدٌ وَدَخَلَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ فِي الْآخَرِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ وَكَالْوُضُوءِ مَعَ الْغُسْلِ فَإِنَّ سَبَبَ الْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ الْمُلَامَسَةُ انْدَرَجَ فِي الْجَنَابَةِ فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ وُضُوءٍ وَأَجْزَأَهُ الْغُسْلُ، الثَّانِي: الصَّلَوَاتُ كَتَدَاخُلِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ مَعَ صَلَاةِ الْفَرْضِ مَعَ تَعَدُّدِ سَبَبِهِمَا فَيَدْخُلُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّحِيَّةِ فِي الزَّوَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الظُّهْرِ مَثَلًا فَيَقُومُ سَبَبُ الزَّوَالِ مَقَامَ سَبَبِ الدُّخُولِ فَيُكْتَفَى بِهِ، الثَّالِثُ: الصِّيَامُ كَصِيَامِ رَمَضَانَ مَعَ صِيَامِ الِاعْتِكَافِ، فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ سَبَبٌ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ وَرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ سَبَبُ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فَيَدْخُلُ سَبَبُ الِاعْتِكَافِ فِي سَبَبِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَيَتَدَاخَلُ الِاعْتِكَافُ وَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ.
الرَّابِعُ: الْكَفَّارَاتُ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي حِلِّ الْأَيْمَانِ عَلَى التَّكْرَارِ دُونَ الْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ تَكْرَارِ الطَّلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ حَتَّى يُرِيدَ التَّكْرَارَ وَفِي كَفَّارَةِ إفْسَادِ رَمَضَانَ إذَا تَكَرَّرَ الْوَطْءُ مِنْهُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا عَلَى الْخِلَافِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْيَوْمَيْنِ وَلَهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ السَّابِعِ وَالْخَمْسِينَ صَحِيحٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
ابْنُ الشَّاطِّ: وَالْأَصَحُّ نَظَرًا امْتِنَاعُ التَّقْدِيمِ فِي الزَّكَاةِ قُلْت وَذَلِكَ لِأَنَّ تَعْلِيقَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ أَوْ السَّبَبِ الثَّانِي يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِيَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ قَبْلَ تَمَامِ سَبَبِهِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ نَفْلٍ عَنْ فَرْضٍ فَمِنْ هُنَا قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ: وَالْأَوْجَهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِعَدَمِ جَوَازِ تَقْدِيمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ لِعَقْلِيَّةِ سَبَبِيَّةِ الْحِنْثِ لَهَا دُونَ عَقْلِيَّةِ سَبَبِيَّةِ الْيَمِينِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي التَّحْقِيقِ لِسَتْرِ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِخْلَالِ بِتَوْقِيرِ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلَافِيهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ عَنْ الْحِنْثِ لَا عَنْ الْيَمِينِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَأَيْضًا أَقَلُّ مَا فِي السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ عَدَمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُهَا فَالْحِنْثُ شَرْطُ وُجُوبِهَا لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَهُ وَإِلَّا وَجَبَتْ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ وَالْمَشْرُوطُ لَا يُوجَدُ قَبْلَ شَرْطِهِ فَلَا تَقَعُ وَاجِبَةً قَبْلَهُ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَلَا عِنْدَ ثُبُوتِهِ بِفِعْلٍ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَالزَّكَاةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ.
قَالَ: وَمَا فَرَّقُوا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ الْمَالِيِّ وَالْبَدَنِيِّ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ لِلْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ دُونَ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ الصَّوْمُ بِأَنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ فِي الْكَفَّارَةِ وَالْيَمِينُ سَبَبُهَا وَالشَّرْطُ عِنْدَهُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي تَأْخِيرِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا فِي انْعِقَادِ السَّبَبِ، وَالْحَقُّ الْمَالِيُّ لِلَّهِ تَعَالَى يَنْفَصِلُ وُجُوبُ أَدَائِهِ عَنْ نَفْسِ وُجُوبِهِ لِتَغَايُرِ الْمَالِ وَالْفِعْلِ فَجَازَ اتِّصَافُ الْمَالِ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ كَمَا فِي الْحَقِّ الْمَالِيِّ لِلْعَبْدِ بِخِلَافِ الْحَقِّ الْبَدَنِيِّ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ وُجُوبُ أَدَائِهِ عَنْ نَفْسِ وُجُوبِهِ بَلْ نَفْسُ وُجُوبِهِ وُجُوبُ أَدَائِهِ فَلَوْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ أَدَائِهِ انْتَفَى الْوُجُوبُ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ حِينَئِذٍ.
وَمِنْ ثَمَّةَ جَازَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَهُوَ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ هُوَ الْعِبَادَةُ وَهُوَ فِعْلٌ يُبَاشِرُهُ الْمَرْءُ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِذْنِهِ وَالْمَالُ آلَةٌ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ كَمَنَافِعِ الْبَدَنِ فَيَكُونُ الْمَالِيُّ كَالْبَدَنِيِّ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوُجُوبِ الْأَدَاءُ وَأَنَّ تَعَلُّقَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِيَّةِ فِيهِمَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ فِي الْبَدَنِيِّ أَيْضًا فَإِنَّ الْمُسَافِرَ