لِئَلَّا تَمْتَدَّ أَيْدِيهِمْ إلَيْهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَسَائِلِ فَنَحْنُ قُلْنَا بِسَدِّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ سَدُّ الذَّرَائِعِ خَاصًّا بِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ قَالَ بِهَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَأَصْلُ سَدِّهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ) اعْلَمْ أَنَّ الذَّرِيعَةَ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا وَتُكْرَهُ وَتُنْدَبُ وَتُبَاحُ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ هِيَ الْوَسِيلَةُ فَكَمَا أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ فَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَمَوَارِدُ الْأَحْكَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ مَقَاصِدُ وَهِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي أَنْفُسِهَا وَوَسَائِلُ وَهِيَ الطُّرُقُ الْمُفْضِيَةُ إلَيْهَا وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ غَيْرَ أَنَّهَا أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْمَقَاصِدِ فِي حُكْمِهَا وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ وَإِلَى أَقْبَحِ الْمَقَاصِدِ أَقْبَحُ الْوَسَائِلِ وَإِلَى مَا يُتَوَسَّطُ مُتَوَسِّطَةٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْوَسَائِلِ الْحَسَنَةِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: ١٢٠] فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ فِعْلِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا حَصَلَا لَهُمْ بِسَبَبِ التَّوَسُّلِ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَصَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الِاسْتِعْدَادُ وَسِيلَةَ الْوَسِيلَةِ.
(تَنْبِيهٌ) الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ كُلَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَقْصِدِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَسِيلَةِ فَإِنَّهَا تَبَعٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ خُولِفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَجِّ فِي إمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إزَالَةِ الشَّعْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ.
(تَنْبِيهٌ) قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةُ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إذَا أَفَضْت إلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَالتَّوَسُّلِ إلَى فِدَاءِ الْأَسَارَى بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا وَكَدَفْعِ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ حَرَامًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ عَنْهَا إلَّا بِذَلِكَ، وَكَدَفْعِ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى لَا يَقَعَ الْقَتْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، فَهَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا الدَّفْعُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ بِأَكْلِ الْمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِرُجْحَانِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ.
(تَنْبِيهٌ) تَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ فَرْقٌ آخَرُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَسَائِلِ وَقَدْ الْتَبَسَتْ هَاهُنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَأَمَّا الْمَعَاصِي فَلَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَلِذَلِكَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا.
وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَلَا تَمْتَنِعُ إجْمَاعًا كَمَا يَجُوزُ لِأَفْسَقِ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمْ التَّيَمُّمُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ رُخْصَةٌ وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ إذَا أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مِنْ حُفَّاظِ الْمَذْهَبِ عَكْسَ ذَلِكَ نَصًّا وَأَنَّ كَلَامَ عِيَاضٍ عَلَى نَقْلِ الْأَبِيِّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْجَوَازِ مَشْهُورَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ أَوْ مُسَاوِيَةٌ لِلْأُخْرَى عَلَى أَنَّ فِي نُسْخَةٍ عَتِيقَةٍ مَظْنُونٍ بِهَا الصِّحَّةُ مِنْ نُسَخِ الْإِكْمَالِ مُخَالِفَةٍ لِمَا فِي نَقْلِ الْأَبِيِّ عَنْهُ حَيْثُ إنَّهَا بِلَفْظٍ يُجِيزُ تَقْلِيدَ هَدْيِ التَّمَتُّعِ إلَخْ لَا بِلَفْظٍ يُجِيزُ نَحْرَ هَدْيٍ إلَخْ كَمَا فِي نَقْلِ الْأَبِيِّ وَيُؤَيِّدُهَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذَكَرَ عِيَاضٌ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ جَوَازَ النَّحْرِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لَا قَبْلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فَقَطْ فَكَيْفَ يَذْكُرُ فِي ذَلِكَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّخْمِيَّ إنَّمَا ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي التَّقْلِيدِ لَا فِي النَّحْرِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَفْظَةَ نَحْرٍ فِي نَقْلِ الْأَبِيِّ عَنْ عِيَاضٍ تَصْحِيفٌ وَإِنَّمَا هِيَ تَقْلِيدٌ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ كَلَامُ حُفَّاظِ الْمَذْهَبِ، نَعَمْ الْقَوْلُ بِجَوَازِ نَحْرِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَإِنْ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِنَا إلَّا أَنَّهُ قَوِيٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ مَالِيٍّ تَعَلَّقَ بِسَبَبَيْنِ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى ثَانِيهِمَا كَمَا نَقَلَهُ الْجَمَلُ عَلَى الْجَلَالَيْنِ عَنْ شَيْخِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا صَوْمُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مِمَّنْ فَقَدَ الْهَدْيَ أَوْ ثَمَنَهُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى ثَانِي سَبَبَيْهَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا مَالِيَّةٌ اهـ.
قُلْت: وَقَدْ تَرَتَّبَ الْآنَ عَلَى إخْرَاجِ الْهَدْيِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْحِلِّ وَذَبْحِهِ بِمَكَّةَ وَعَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مِنًى وَذَبْحُهُ بِمِنًى إمَّا إتْلَافُ مَالٍ وَإِمَّا عَدَمُ انْتِفَاعِ الْفُقَرَاءِ بِالْهَدْيِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ حَجَّ وَشَاهَدَ ذَلِكَ فَالْأَسْهَلُ إمَّا الْعَمَلُ بِمُقَابِلِ الْمَشْهُورِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَطَّابُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالشَّاذِّ فِي خَاصَّةِ النَّفْسِ وَأَنَّهُ يُقْدِمُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَغَارِبَةِ وَإِمَّا تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ نَحْرِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ بِنَاءً عَلَى مَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ فِي خَاصَّةِ النَّفْسِ بَلْ يُقَدِّمُ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ رَاجِحًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْغَيْرِ قَوِيٌّ فِي مَذْهَبِهِ وَتَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْجَمْعِ فِي الْهَدْيِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَنَا فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ فِي نَازِلَةٍ فَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ الَّتِي بَيْنَ مَالِكٍ وَبَيْنَهُ اثْنَانِ